أخبار لبنان

العلامة السيد علي فضل الله في ذكرى ولادةِ الإمامِ الحسنِ (ع): تأكيدُ قيمةِ العطاءِ

في ذكرى ولادةِ الإمامِ الحسنِ (ع): تأكيدُ قيمةِ العطاءِ
العلامة السيد علي فضل الله

قال الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً}. صدق الله العظيم.
نستعيد في الخامس عشر من شهر رمضان، ذكرى ولادة الإمام الثاني من أئمَّة أهل البيت (ع)، ممن أذهب الله عنهم الرجس وطهَّرهم تطهيراً، وهو الإمام الحسن بن عليّ (ع)، ريحانة رسول الله (ص)، وسيّد شباب أهل الجنّة.
هذا الإمام الّذي عندما يُذكَر، تُذكَر معه شمائل رسول الله (ص) الَّتي تمثّلت فيه، فقد كان أشبه النّاس خَلقاً وخُلقاً برسول الله.
فقد كان المسلمون ينظرون إليه إذا اشتاقوا لرؤية رسول الله (ص)، وكانوا يجدون عنده علمه وحلمه وعبادته وهيبته وزهده وشجاعته وعطاءه وكرمه وسخاءه وحبّه للناس وحرصه عليهم ورحمته بهم.
ونحن في هذه المناسبة المباركة، لن نستطيع أن نحيط بكلِّ صفات هذا الإمام وشمائله، وسنكتفي بواحدة من هذه الصِّفات الَّتي تميَّز بها ونسبت إليه، وهي صفة السَّخاء والكرم.
المعطاءُ السخيُّ
فقد كان الإمام الحسن (ع)، كما تذكر سيرته، معطاءً سخيّاً على الفقراء والمساكين، وعلى كلِّ من كان يعرف بحاجته أو يطلب منه، حتى وصف بكريم آل البيت. وعندما يوصف الإمام (ع) بهذا الوصف، فهذا لا يعني أنَّ بقيّة أهل البيت لم يكونوا كرماء، فالكرم والبذل والعطاء كانت صفات لازمت كلّ أهل البيت.
ولكنَّ تميُّز الحسن بهذه الصّفة، يعود إلى الظّروف التي أملت على الإمام كثرة العطاء، فقد كان النَّاس في مرحلته في شدَّة وضيق، ما جعله يولي الوضع الاجتماعي للنَّاس وسدّ حاجاتهم وتأمين متطلّباتهم اهتماماً خاصاً.
فقد ورد في سيرة الإمام الحسن (ع) أنَّه كان لا يردّ سائلاً يطرق بابه، وكان يعطي ولو على حسابه وحساب عائلته، وقد سئل يوماً: لأيّ شيء نراك لا تردّ سائلاً وإن كنت على فاقة؟ فقال (ع): “إنَّ الله تعالى عوَّدني عادةً أن يفيض نِعَمِه عليّ، وعوّدته أن أفيض نِعَمِه على النّاس، فأخشى إن قطعْت عادتي معه، أن يمنعني عادته”، وأنشد قائلاً:
إذا ما أتاني سائلٌ قلت: مرحباً بمن فضلُه فرضٌ عَلَيَّ معجَّلُ
وقد سمع (ع)، وهو يطوف حول الكعبة، رجلاً إلى جانبه يدعو الله أن يرزقه مالاً، فلم ينتظر حتى ينتهي من طوافه، بل قطع طوافه، وذهب إلى منزله حتى يأتي له بالمال… وعندما قيل له: لِمَ فعلت ذلك، أما كان بالإمكان أن تستمهله حتى تنتهي من طوافك؟ قال (ع): خشيت أن ينزل الله العطاء على هذا الشَّخص من غيري.
وقد بلغ من كرمه أن رأى غلاماً (أي من العبيد) يعمل في بستان لسيِّده، يأكل من رغيفٍ لقمة، ويطعم كلباً جالساً إلى جانبه لقمةً، أي كان يتقاسم الرّغيف مع الكلب، فقال له: “ما حملك على هذا؟”، قال: “إنّي أستحي منه أن آكل ولا أطعمه”. فقال له الإمام الحسن (ع): “لا تبرح مكانك حتى آتيك”. وذهب إلى سيِّده، فاشتراه واشترى البستان الّذي هو فيه، فأعتقه، وملَّكه البستان.
وقد أتاه رجلٌ يطلب حاجة، وكان الإمام آنذاك بين النَّاس – وهنا انظروا إلى مدى اهتمام الإمام الحسن (ع) بحفظ كرامة الفقراء وعدم امتهانها عند إعطائهم – فقال له: “اكتب حاجتك في رقعةٍ وارفعها إلينا”، وذلك حتى لا يشعره بذلّ الحاجة أمام النّاس، ثم ضاعف الإمام (ع) طلبه مرّتين، أعطاه مرة لحاجته، ومرة أخرى لسؤاله، لأنه بسؤاله بذل ماء وجهه أمامه؛ وأعطاه بتواضع كبير، فقال له بعض الجالسين: ما كان أعظم بركة الرّقعة عليه يابن رسول الله! فقال: “بركتها علينا أعظم، حين جعلنا للمعروف أهلاً… أما علمتم أنَّ المعروف ما كان ابتداءً من غير مسألة، فأمَّا من أعطيته بعد مسألة، فإنَّما أعطيته بما بذل لك من وجهه”.
العطاءُ لكلِّ النّاسِ
ولم يقتصر عطاء الإمام (ع) على الّذين كانوا يوالونه، حيث ذكر في سيرته، أنّه مرَّ (ع) برجل من أهل الشَّام، ممن كان معاوية قد غذَّاهم بالكراهية والحقد على الإمام الحسن (ع). لما رأى الرّجل الإمام (ع)، وبدون أيِّ مقدمات، راح يكيل له السّباب والشَّتائم، والإمام ساكت لم يردّ عليه، إلى أن فرغ من هذه الإساءة للإمام (ع). فالتفت الإمام (ع) إليه، وقال له: “أيّها الشَّيخ، أظنُّك غريباً، ولو سَألتَنا أعطيناك، وإنْ كنتَ جائعاً أشبعناك، وإن كنتَ عرياناً كَسَوناك، وإن كنتَ مُحتاجاً أغنيناك، وإن كنت طريداً آويناك، وإن كانَ لك حاجة قضيناها لك”، يكفي أن تطلب حتَّى نجيبك. بعدها، أخذه الإمام إلى بيته، وهناك رأى إكرام الإمام (ع) له وإحسانه إليه، رغم كلّ ما صدر عنه، فخرج من بيت الإمام (ع) وهو يقول: الله أعلم حيث يجعل رسالته، وبعدما كان الإمام الحسن (ع) أبغض النَّاس إليه، أصبح أشدّ الناس حبّاً وولاءً له.

أهميّةُ العطاءِ
أيُّها الأحبَّة: لقد عبَّر الإمام الحسن (ع) من خلال سلوكه هذا عن القيمة التي أرادها الله عزَّ وجلَّ، ودعا إلى أن تبنى الحياة على أساسها وهي قيمة العطاء، فالله يريد للنَّاس أن يطبعوا حياتهم بالعطاء، وأن يتمثَّلوه بعطاءاته الّتي لا تعرف حدوداً في كلِّ هذا الكون الذي سخَّره.. أن لا يكونوا أنانيّين، بحيث يديرون وجوههم عن آلام النَّاس ومن يحتاجون إليهم، وإذا كبرت اهتماماتهم، فهي لعائلاتهم أو للمحيطين بهم، فيما المطلوب أن تتّسع إلى كلّ طالب حاجة.
والعطاء إن هو حصل، فإنّ حدوده لا تقف عند حلّ مشاكل من يحتاجون إلى المال وإدخال السرور عليهم، بل يساهم، على أهميته، في تعزيز العلاقات بين النَّاس، ويقوي الروابط فيما بينهم. وهو ضمانٌ لسلام المجتمع وأمنه وقومه، فلا يمكن أن ينعم المجتمع وأن يحظى بالاستقرار، إلّا عندما يعيش أفراده روح التّعاطف والتراحم، ويمدّ كلّ واحد يده إلى الآخر، فالفقر هو مشروع تنازع وفتنة؛ هو سبب لخراب المجتمع، ودخول شياطين الجنِّ والإنس إليه.
وقد قال أمير المؤمنين عليّ (ع) في ذلك في وصيته لابنه الحسن (ع): “لا تلم إنساناً يطلب قوته، فمن عدم قوته كثرت خطاياه”. ولكن طبعاً، لا يفهم من هذا الحديث أنَّ الفقر يبرِّر التعدّي على أملاك النّاس، أو الأملاك العامَّة، ولكنّ المراد منه التّنبيه إلى مخاطر تفشّي الفقر والفاقة، ومن هنا، كان الحثّ على العطاء.
العطاءُ مظهرُ الإيمانِ
والعطاء هو مظهر الإيمان، فلا يكون المؤمن مؤمناً حتى يكون كريم النفس، كريم اليد، وهو مما يقرب الإنسان إلى ربّه عزّ وجلّ، وهو أقرب الطّرق إلى الجنَّة، وصمام الأمان من النار، ولذا، عندما جاء رجل إلى رسول الله (ص) وقال له: أيّ الناس أفضلهم إيماناً؟ قال (ص): “أبسطهم كفّاً”، وقال: “أحبّ النّاس إلى الله عزَّ وجلَّ، أسخاهم كفّاً”.
وفي الحديث: “السّخيّ قريبٌ من الله، قريبٌ من النَّاس، قريبٌ من الجنَّة. والبخيل بعيدٌ من الله، بعيدٌ من النّاس، قريبٌ من النّار”.
فيما ندَّد الله سبحانه وتعالى بالبخل والبخلاء، فقال في كتابه العزيز: {مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ}.
فبخلك ليس، كما تظنّ، بخلاً على الفقير أو على الله، فالله لا يحتاج إلى عطائك، والفقراء والأيتام قد تكفّل بهم ربهم، ولكنّك أنت تخسر بذلك موقعاً في قلوب النّاس وعند الله {وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ}.
وقد قال سبحانه: {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آَتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ}.
لتعزيزِ قيمةِ العطاءِ
إنّنا أحوج ما نكون في هذه المرحلة الصَّعبة إلى تعزيز هذه القيمة في نفوسنا وفي داخل مجتمعنا الذي ينهش فيه الفقر وتزداد فيه حال العوز، وتتَّسع نسبة أصحاب الحاجات، ما يتطلب منا أن نتحمَّل مسؤوليتنا بأن نكون من أهل العطاء، فلا نبخل على من يحتاج إلى مالنا أو جهدنا، ولو بالقليل، ودائماً ممزوجاً بالكرامة.
بهذه الرّوح؛ روح العطاء، نعبّر عن ولائنا وحبِّنا للإمام الحسن (ع)، ولأهل البيت (ع) الذين عندما قدَّمهم الله سبحانه وتعالى إلينا، لم يقدِّمهم إلَّا بأنهم أهل البذل والعطاء حتى الإيثار، رغم كل الصفات الأخرى التي كانت لديهم، لأهمية هذه الصفة وآثارها، فقال: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُوراً * إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً}.
وبذلك نحقَّق ما كان يصبو إليه رسول الله (ص) عندما قال: “مَثَلُ المؤمنين في تَوَادِّهم وتراحُمهم وتعاطُفهم: مثلُ الجسد، إِذا اشتكى منه عضو، تَدَاعَى له سائرُ الجسد بالسَّهَرِ والحُمَّى”، وقال (ص): “المؤمن للمؤمن كالبنيان المرصوص، يشدّ بعضه بعضاً، ولا يخذل بعضه بعضاً”، وقوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ}.
وكانت النَّتيجة: {فَوَقَاهُمُ اللهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً * وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً}.
جعلنا الله من أولئك الباذلين بدون حساب سوى حساب الله، لنحظى بما حظوا، ونصل إلى حيث وصلوا..

زر الذهاب إلى الأعلى