سراج الامام علي وفجر سماحة السيد بقلم د. شريف نورالدين

بتاريخ: ٢٨ / ٩ / ٢٠٢٤
بين الشك واليقين، والسراج والصبح، والحق سماحته رحلة في كشفه الغيبي وغيابه، حقيقة صبر ونور وثقة بالله.
حيث الحدود بين الحقيقة والخيال، عالم تتداخل فيه بين ما نعرفه وما نظن أننا نعرفه، يقف الإنسان حائرًا بين يقين قد يتلاشى وشك قد يثقل الروح، نبحث عن الأجوبة في ملامح الغياب، ونتساءل إن كان الحاضر هو مجرد وهم أو إن كان الغائب ما زال ينبض بالحياة في مكان ما، في بعد آخر لا ندركه، وبين ظلال هذا السؤال المستعصي، تتأرجح أرواحنا على حافة الغموض، نحاول الإمساك بخيوط الحقيقة وهي تتسرب في لحظات الزمن.
لكن، هل يمكن أن يكون الشك بحد ذاته نافذة إلى يقين أعمق؟ ربما لا يتعلق الأمر بالحقيقة التي نبحث عنها في الخارج، بل بذلك النور الذي يشرق في الداخل حين نواجه غموض الحياة، فنكتشف أن اليقين لا يكون دائمًا في الإجابات، بل أحيانًا في قبول الصمت.
في ظل الشك واليقين حول مصير سماحته، سواء كان حيًا أو مستشهدا، يتجلى الصراع بين حدود المعرفة الإنسانية وحقيقة الوجود.
الشك هنا هو مزيج من الحيرة والخوف، يمثّل تلك المسافة الغامضة التي تفصل بين الحقيقة والخيال.
الإنسان، في هذه الحالة، يجد نفسه بين ظلال المجهول، حيث تتداخل الحقائق مع الأوهام وتتحول الأسئلة إلى بوابات نحو العمق الداخلي.
ومع صمت الإمام علي ااذي اختتم به حوار حديث السراج، يمكن القول إن الشك في هذه الحالة ليس مجرد حالة من عدم اليقين، بل هو حالة من البحث عن نور سماحته وطلته البهية، يتحول إلى رمز للغموض الأبدي، تمامًا مثل الحقيقة التي يبحث عنها كميل.
الحياة والموت، مثل الشك واليقين، ليست سوى مظاهر لحقيقة أعمق تتجاوز المفهوم الحسي.
لكن في لحظة ما، يقف الإنسان أمام الحد الفاصل بين المعرفة والجهل، بين الشك واليقين. تمامًا كما طلب كميل المزيد من البيان من الإمام علي(ع)،قد يجد الشخص نفسه يطلب المزيد من الإشارات والدلائل حول مصيره.
ومع ذلك، قد تأتي تلك اللحظة التي يتوقف فيها السؤال ويأتي الصمت. الصمت هنا ليس عجزًا عن المعرفة، بل هو إدراك بأن ما نسعى إليه ليس دائمًا قابلاً للتحقق بالعقل وحده. ربما يكون هذا الصمت دعوة للقبول، تمامًا كما أشار الإمام علي إلى أن الصبح قد طلع، وأن النور قد كشف ما كان مستورًا.
في ظل هذا الصراع بين الشك واليقين، نكتشف أن الحقيقة ليست دائمًا شيئًا ملموسًا، بل قد تكون تجربة داخلية تتطلب أن نصمت وننتظر، أن نرضى بالغموض أحيانًا، وأن نؤمن بأن الضوء سيأتي في وقته، حتى لو لم يكن ذلك بالطريقة التي ننتظرها.
وفي الحوار العميق بين الإمام علي عليه السلام وكميل بن زياد يتناول “الحقيقة”.
الإمام علي هنا يتجاوز الفهم التقليدي للمفاهيم وينطلق إلى أعماق الحكمة والسر الإلهي، وعليه:
١- رمزية الضوء والظلام: الإمام علي يبدأ وينهي حديثه بإشارة إلى الضوء والظلام. “أطفئ السراج، فقد طلع الصبح”، تعبيرًا عن أن البحث عن الحقيقة أصبح واضحًا بنور الفجر. في هذا السياق، يرمز السراج إلى الإدراك البشري المحدود الذي يعتمد على الأدوات البشرية، في حين أن طلوع الصبح يمثل الحقيقة الإلهية المطلقة التي لا تحتاج إلى تفسير أو إشارة.
وفي سياق الرمزية بين الضوء والظلام، نجد أن غياب سماحته الانية، تضيف بُعدًا جديدًا إلى تلك المعاني العميقة. عندما يقول الإمام علي “أطفئ السراج، فقد طلع الصبح”، فإن هذا الفجر ليس فقط بداية جديدة، بل هو أيضًا لحظة نعي حزن الغياب. في حين سراجه هو رمزًا لكل أمل المفقود.
– مراحل المعرفة: من خلال حواره، يقدم الإمام سلسلة من التعريفات المتدرجة للحقيقة. يبدأ بـ”كشف سبحات الجلال من غير إشارة”، مما يعني أن الحقيقة هي انكشاف الجلال الإلهي بدون الحاجة إلى وسائل مادية أو عقلية، ويستمر بتعريف الحقيقة على أنها “محو الموهوم مع صحو المعلوم”، في إشارة إلى التحرر من الوهم والوصول إلى اليقين، ومن ثم ينتقل إلى “جذب الأحدية لصفة التوحيد”، أي أن الحقيقة تتجلى في وحدانية الله، وهي النور الذي يشرق من “صبح الأزل”.
وفي إطار مراحل المعرفة التي يقدمها الإمام علي(ع)، يظهر غياب سماحته الأني، ليُضيف عمقًا جديدًا إلى رحلة البحث عن الحقيقة.
عندما يبدأ الإمام بعبارة “كشف سبحات الجلال من غير إشارة”، فإن هذا الانكشاف لا يعبر فقط عن الجلال الإلهي، بل يعكس أيضًا تجربة الفقد والذكريات التي تبقى حية في قلوبنا. فغيابه ما يمكن أن يجعل الجلال الإلهي أكثر وضوحًا، حيث نشعر بأن هناك شيئًا أكبر من الفقد يدعونا إلى التعمق في الروح.
– تفوق على اللغة والمفاهيم: الإمام في النهاية يختتم حديثه بالصمت، وهذه إشارة إلى أن الحقيقة تتجاوز حدود اللغة والوصف، والمعرفة الأعمق لا تُنقل بالكلمات، بل بالإشراق الداخلي. الصمت هنا هو تعبير عن أن الكلام قد وصل إلى مداه ولا يمكنه إيصال ما يتعدى المفاهيم البشرية.
ويتجاوز الصمت حدود المعرفة البشرية، فإن غياب سماحته، يصبح بمثابة دعوة للتأمل في الروح، حيث ندرك أن هناك جوانب من الوجود لا يمكن أن تُفهم إلا من خلال الإحساس العميق في هذا الفضاء الصامت.
للبحث عن النور في ظلمة الفقد، ليؤكد أن الحقيقة، في عمقها، تتجاوز كل حدود العقول الى حيث القلوب وصمت الامام.
“وصمت الإمام” تحمل دلالات عميقة وتجسد بعدًا فلسفيًا وروحيًا في الحوار. هذا الصمت ليس مجرد توقف عن الكلام، بل هو إعلان عن الوصول إلى حدود اللغة البشرية والمعرفة الالهية.
الصمت في هذا السياق يمثل أيضًا الاعتراف بأن الحقيقة الإلهية تتجاوز العقل والفهم البشري. يمكن أن يُنظر إليه على أنه دعوة للتأمل الداخلي؛ فبعد أن قدم الإمام سلسلة من التعاريف العميقة للحقيقة، يدرك كميل أن ما تبقى لا يمكن نقله بالكلام.
إنه صمتٌ يحمل معنى الرضا والاكتفاء بما تم كشفه، ويدعو إلى الوصول إلى مرحلة من الاستنارة الروحية التي لا تحتاج إلى الكلمات.
إذاً، هذا الصمت هو قمة الإفصاح، حين يعجز اللسان عن التعبير، يترسخ في القلب النور الإلهي الذي لا يتطلب لغة أو إشارة.
وفي عالم مليء بالغموض، وبين أمواج الشك التي تلتف حولنا، نجد أن الصبر ليس مجرد انتظار، بل هو قوة هادئة تمنح الروح ثباتًا في مواجهة المجهول، وفي الصبر، يتجلى الأمل بالله، كالنور الخافت الذي يبزغ في قلب الظلام، يقودنا نحو اليقين بأن ما تخبئه لنا الحياة ليس عبثًا، بل حكمة إلهية تتكشف في وقتها.
أما الطريق إلى الحقيقة قد يبدو شاقا محفوفًا بالأسئلة والمخاوف حول المصير والغياب، لكن الإيمان بالله هو بوصلة الروح، والتي وإن ضلّ العقل وجهته، تبقى متمسكة بذلك اليقين بأن كل شيء يمضي وفقًا لإرادة عليا. فلا ينفك الأمل ينمو في ظل الصبر، ويصبح اليقين بالله هو المنارة التي تقودنا حيث تنكشف الحقائق ونجد في القبول والرضا طمأنينة القلوب.