كتب اللواء خالد كريدية مدينة صور التاريخ، الحداثة، وتعايش الديانات بين محرابي الهلال والصليب
كتب اللواء خالد كريدية
مدينة صور
التاريخ، الحداثة، وتعايش الديانات بين محرابي الهلال والصليب
عندما يتكلم البحر بأسم المدينة
ثمة مدن تشيد بالحجارة، وأخرى تشيد بالدماء، وصور بين القلائل التي شيدت بالأسطورة.
على صخرة بحرها كتب الفينيقيون أولى صفحات الحضارة، وهناك نحت التاريخ فصول التعايش والنزاع، الأنفتاح والأنكفاء، والغزو والتحرر، فكانت صور -وماتزال-تمثل تقاطع بين البحر والتاريخ، بين المقدس والسياسي، بين الهلال والصليب.
ليست صور مجرد موقع اثري على الخارطة اللبنانية ، بل هي رمز مفتوح على صراعات وانفراجات المشرق، تعكس بشوارعها، بأحيائها، بكنائسها ومآذنها، شريطا” حيا” لذاكرة المكان، حيث لا تنفصل الأزمنة، بل تتراكب في مشهد حضاري مركب.
صور الفينيقية- الجذر البحري والهوية الأولى يستحيل الحديث عن صور دون الفينقيين، اولئك البحارة الذين لم يبنوا جيشا”بل بنوا الأسطول. في زمن كان يستباح فيه بالسيف، اختار الفينيقيون الطريق البحري، وصدروا تجارتهم وثقافتهم الى قبرص وقرطاج وقرطبة.في صور ولد الأرجوان كرمز للأبهة، وخرج الحرف، ومعه فكرة الأنتقال من الذاكرة الشفوية الى الكلمة المكتوبة. كانت صور منذ لحظتها التأسيسية مدينة للأنفتاح،لا للغزو، وفي ذلك مفارقة تاريخية تستحق التأمل: المدينة التي شيدت على الأسطورة( أوروبا، ادونيس)
كانت اكثر المدن واقعية في إدارتها للتنوع.
لكن هذه المدينة، التي اعتادت على ركوب الموج، لم تكن بمنأى عن العواصف. فمع كل حضارة تزورها، كان ثمن الأنفتاح يدفع لافقط بالذهب، بل أحيانا”بالدماء
الهلال والصليب-الصراع بين الرمزين في الأرض المشتركة
دخلت صور في زمن الغزوات الكبرى مرحلةالتحول العنيف من الرومان الى البيزنطيين، ثم الى المسلمين ، فاءلى الصليبيين والفرنجة، كانت المدينة دائما” على خط تماس بين سلطتين: سلطة البحر وسلطة النص المقدس.مع الصليبيين عام 1124، دخلت صور نفق ” الصراع الرمزي ” بين المسيحية الغربية القادمة من خلف البحر، والاءسلام المحلي الذي تشكل في احياء المدينة ومساجدها. لكن اللافت ان هذا الصراع، رغم عنفه لم يمح التعايش، بل عمقه. فحتى تحت السيف، ظل الجار المختلف دينا” جزءا”من نسيج المدينة. حين عاد صلاح الدين الأيوبي ومن بعده المماليك، وضع الهلال مجددا”على ابواب صور. ولكن الهلال لم يلغ الصليب، بل أعيد ترتيب العلاقة بين الرمزين. هنا لا نقرأ الحدث كغزو فقط بل كمحاولة لأعادة كتابة معنى العيش المشترك، رغم فظاعة المراحل.
هل الهلال والصليب رمزان دينيان فقط؟
أم أنهما في صور يمثلان بعدا” سياسيا”؟ هذا السؤال المركزي يجب ان يطرح لأن المدينة عاشت في ظل السلطتين ولم تتحول ابدا” الى مدينة دينية محضة. بل بقيت مدنية الطابع، بحرية الرؤية متعددة في جوهرها.
صور الحديثة- التعددية الصامتة وصخب الطوائف
دخلت صور في العصر الحديث مع ولادة لبنان الكبير وهي تحمل إرثها الثقيل. احتضنت المسيحيين من مختلف الطقوس ( موارنة، كاثوليك. ارثوذكس) مسلمين شيعة، وسنة
لكن بدل ان يكون هذا التنوع مصدرا”للتفجر الطائفي، صار، في كثير من الأحيان، تعايشا” عمليا” وصامتا”.
الحرب الأهلية اللبنانية مرت من هنا، ولكنها لم تسحق النسيج الداخلي لصور كما فعلت في مدن اخرى. لقد واجهت صور الأحتلال الصهيوني أكثر من وعاشت تحت القصف والتجويع، لكنها لم تنهر. بل تحولت الى رمز للمقاومة لا فقط العسكرية الثقافية والأجتماعية.
المفارقة أن صور، حوصرت من قبل الجيوش الصليبية، والتي قاومت الأحتلال الحديث، ما زالت تحفظ بيوتها التي ما زالت ترفع المئذنة قرب الجرس، مازالت تبني مدرسة فيها أستاذ ملتح وطالب يحمل صليب حول عنقه.
هل هذا وهم؟ لا بل هو تعايش صعب، واقعي ومليء بالتجاذبات، لكنه حقيقي. لأن المأزق ليس في التنوع بل في غياب العقد الأجتماعي الذي يحوله الى طاقة سياسية منتجة.
المدينة والحداثة – سؤال التقدم دون نفي الذاكرة
هل ممكن لمدينة كصور أن تدخل الحداثة دون أن تمزق ذاكرتها؟
هذا السؤال يحمل تحديا” فلسفيا” عميقا” فالحداثة بما تحمله من نزعة فردانية وعلمانية، قد تبدو في الظاهر على نقيض بنية مدن مثل صور، المشحونة دينيا” وتاريخيا”. ولكن الحقيقة ان الحداثة هنا تتخذ مسارا” خاصا”
في صور لا تأتي الحداثة على شكل ناطحات سحاب، بل على شكل جامعات تدرس النقد، وفناني شارع يرسمون جداريات تمجد العيش المشترك، وأمهات يرسلن اولادهن إلر مدارس مختلطة “لأن الحياة اقوى من الطائفية ”
هي حداثة بطيئة لكنها ليست خجولة هي ليست معادية للمقدس، بل تعيد رسم موقعه في الفضاء العام .
صور كمرآة للمستقبل المشرق
من صور أطل العالم على الحرف، وعلى التجارة، وعلى فكرة الأنفتاح. ومن صور أطلت الهويات المشرقية المركبة ، حيث يمكن للنسلم أن يعيش قرب المسيحي ، ليس كخصم بل كشريك. بين الهلال والصليب، لا تنتهي الحكاية، بل تبدأ من جديد.
وربما فيما يراد لنا فيها ان ننسى ، أن نتحارب على الرموز، أن نعيد إنتاج الكراهية،
تكون صور بما هي عليه من بساطة وتعقيد، دليلا” على أن المدن التي عاشت التاريخ بعمق، هي الأقدر على تصور مستقبل متعدد، عادل وحداثي في آن معا”