بأقلامنا

الأمنُ الاجتماعيُّ ضرورةٌ لحفظِ الحياةِ ونموِّ المجتمعات بقلم سماحة الشَّيخ زهير قوصان

إنَّ عمليَّة بناء المجتمع، هي من الأمور المهمَّة التي أكَّدت أهميَّتها جميع الأديان السماوية والقوانين الوضعية، فهي ترى أنّه لا تُبنى البشريَّة ولا تستقيم إلَّا بوجود بناءات مجتمعية صحيحة، ولا يطمئنّ الفرد ويستقرّ إلا بوجوده داخل مجتمع قويم آمن يمنحه الاطمئنان، ويحفظ حقَّه وكرامته ويصونه.
وعليه، فإنَّ تحقيق الأمن الاجتماعي في الحياة الإنسانيَّة حالة ضروريَّة لتوافق أفراد المجتمع وعيشهم في حالة من الودّ الَّتي تنعكس إيجاباً عليه، فتجعله بنياناً مرصوصاً، وخصوصاً مع إحساس كلِّ فرد في المجتمع بنعمة الأمن والأمان والانسجام مع أقرانه.
الإسلام وبناء المجتمع
والإسلام الحنيف الَّذي جاء به نبيّنا محمّد (ص) هو خاتم الأديان، يشتمل على برنامجٍ متكاملٍ، يتكفَّل بناء الفرد وبناء المجتمع، وتنظيم علاقة الفرد بالله تعالى وبالآخرين الَّذين يعيش معهم، فلم يكن الإسلام برنامجاً عبادياً يرتبط بالعبادات الطقسيَّة كالصلاة والصيام والحجّ فحسب، بل عبادياً واجتماعيّاً واقتصادياً وسياسياً وغيرها… دخل في ميادين الحياة جميعها، وأعطى الخطوط المستقيمة النَّاجحة لبناء الفرد ذاتياً والمجتمع كلّياً، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ}. فقد حرص الإسلام الحنيف بوساطة القرآن الكريم والسّنّة المُطهَّرة على صناعة الفرد وصناعة المجتمع وفق أسس ربانيَّة سليمة وصحيحة.
أساسُ بناءِ المجتمع
والأمن الاجتماعي مقوّم أساسيّ من مقوِّمات بناء المجتمعات وضرورة حتميَّة لها، وكانت وما زالت المجتمعات غير الآمنة تعيش الفوضى والضَّياع والتشرّد وعدم التكيّف والتوافق، حتى إنَّ الكثير من الأفراد في هذه المجتمعات يهاجرون بحثاً عن المجتمع الآمن والمستقر.
روي عن الإمام الصَّادق (ع) عن آبائه عن جدِّه رسول الله (ص): “نِعْمَتَانِ مَكْفُورَتَانِ؛ اَلْأَمْنُ وَاَلْعَافِيَةُ”.
إنّ نعمة الأمن هي أهمّ النّعم في الدنيا، روي عن الصَّادق (ع): «النَّعِيمُ فِي اَلدُّنْيَا: اَلْأَمْنُ وصِحَّةُ الجِسْمِ، وَتَمَامُ اَلنِّعْمَةِ فِي اَلْآخِرَةِ دُخُولُ اَلْجَنَّةِ».
فالأمن نعمة من نعم الله تبارك وتعالى على الإنسان الَّتي لا تعدُّ ولا تحصى، قال تعالى: {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا}، فبفضل هذه النّعمة، يعيش الإنسان في أمن واستقرار، والعكس صحيح.
مقوِّمات الأمن الاجتماعيّ
قلنا إنَّ الأمن الاجتماعي هو الطّمأنينة والسكون في الأنفس وفي جميع شؤون الحياة، وإنّ من أعظم أسباب الأمن وركائزه هو الإيمان، إذ به يتمّ الأمن الروحي الَّذي هو من أهمّ مقوّمات الأمن الاجتماعي.
فالأمن الاجتماعي يقوم على جملة من المبادئ والأسس، أهمّها العدل والمساواة والحريَّة والقوَّة والحزم في تطبيق القوانين والعقوبات.
فإنّه مما لا شكَّ فيه، أنّ الأمن الاجتماعي يعدُّ من العوامل الأساسيَّة في حياة الفرد والأمَّة معاً، وبدون هذا الأمن الاجتماعيّ، تكون بطن الأرض خيراً لنا من ظاهرها.
ومنْ يستقرئ نصوص القرآن الكريم والسنَّة المطهَّرة، يجد أنَّهما قد وضعا منظومة جامعة أو نظريَّة كاملة متكاملة ذات محاور ثلاثة، إنْ أخذ بها وعمل بمقتضاها، تحقّق الأمن الاجتماعي لهذه الأمَّة، وعاشت في رخاء وسعادة، وإلَّا فلا، هذه المحاور الثَّلاثة يمكن تسميتها بأصول الأمن الاجتماعي.
وتتجلَّى هذه المحاور الثَّلاثة في:
1 – التَّقوى: وهي أنْ يتحلَّى أفراد المجتمع بالفضائل، وأنْ يتخلّوا عن الرَّذائل، وهذا ما أكَّده الله تعالى في عدَّة مواضع من القرآن الكريم، منها: قوله تعالى: {{قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَٰبٌ مُّبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اِتَّبَعَ رِضْوَٰنَهۥ سُبُلَ السَّلٰامِ وَيُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَٰتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِم إِلَى صِرَطٍ مُّسْتَقِيمٍ}، {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا…}.
2 – أنْ يعمَّ التَّكافل الاجتماعي بين أفراد المجتمع. وهذا ما أكَّده الإسلام من خلال دعوته إلى التَّعاون والتَّكافل بين أفراد المجتمع: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ}، وما دعا إليه من ضرورة الإنفاق، وذلك من خلال تشريعه للخمس والزكاة وغيرهما من الوظائف الماليَّة، قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ وَلَـكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ}.
3 – سنّ التَّشريعات العقابيَّة لأفراد المجتمع الخارجين عن شرعيَّة الأمن الاجتماعي، وهذا ما تكفَّل به الإسلام، حيث شرّع جملة من العقوبات تحت عنوان الحدِّ والقصاص والتَّعزير.
روى الصّدوق بإسناده عن أبي الدّرداء، قال: قال رسول الله (ص): “من أصبح معافى في جسده، آمناً في سربه، عنده قوت يومه وليلته، فكأنَّما حيزت له الدّنيا”.
الأمن ضرورة لنموّ المجتمع
وتعدّ هذه التَّوجيهات المباركة كتكاليف اجتماعيَّة راقية لبناء المجتمع وحفظه وصيانته، فالإسلام يرسم حركة الفرد في المجتمع ويحدّدها على أن تكون حركة فاعلة ذات تأثير إيجابيّ، فهو فرد متعاون لا يمكنه الاستغناء عن الآخرين في بناء المجتمع، فالفرد المسلم اجتماعي الطَّبع، مقبول اجتماعيّاً، لا ينفّر الآخرين منه، يحبّ الخير للآخرين.
وعليه، فالأمن الاجتماعي في الحياة الإنسانيَّة لا يتحقَّق ما لم يتمّ التّسليم والانقياد التام للضّوابط والتوجيهات الإسلاميّة التي رسَّخها الإسلام بوساطة القرآن الكريم والسنَّة المطهَّرة، مُضافاً إلى ما أوجده المجتمع من قيم ومُثل، بشرط أن لا تتعارض مع روح الإسلام.
فوائد الأمن الاجتماعي
إنَّ خلق الجوّ الاجتماعي الآمن والمناسب من أهمّ عناصر تماسك المجتمع وتآزره وتوحّده، وهو مبدأ مهمّ لرقيّه وتحضّره وتطوّره. وهذا مرهونٌ بمدى التزام الإنسان بالمنظومة الأخلاقيَّة والقوانين الَّتي تكفّلت تحقيق الأمن الاجتماعي، قال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَـئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ}، {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَىٰ * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا}.
وإذا ما تخلَّى الإنسان عن هذه القيم وأخلَّ بها، لا محالة سيفقد نعمة الأمن، ويعيش القلق والخوف والاضطراب، ويسود الفساد والخراب، قال تعالى: {وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللّهِ فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُون}.
ولذلك، يقرِّر القرآن العظيم أنَّ زوال أيّ نعمة من الله مرهون بتغيير نفس المنعم عليه بالمعاصي والذنوب، قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَ الله لَم يَكُ مُغَيِرّاً نِعمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَومٍ حَتَّى يُغَيِرُوا مَا بأنفُسِهِم وَأَنَ الله سَمِيعُ عَلِيمُ}، وهذا ما نعانيه في واقعنا في هذه الأيَّام.
أيّها الأحبّة، إذا أردنا لمجتمعنا أن ينعم بالأمن والسَّلام، فعلينا أن نرجع إلى ربّنا، نستغفره ونتوب إليه، ونعمد إلى تغيير سلوكنا وطريقة عيشنا، قال تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}.
فهلَّا رجعنا إلى ربّنا وتبنا إليه وأنبنا؟
بسم الله الرَّحمن الرَّحيم
الخطبة الثَّانية
عجزُ العدوِّ عن الانتصار
البداية من غزَّة الَّتي يواصل العدوّ فيها ارتكاب أبشع أنواع المجازر، ويحاول تسجيل نصر وهميّ من خلال السيطرة على معبر رفح، لاستخدامه في المفاوضات، وفرض شروط جديدة، بعدما استطاعت المقاومة أن تسجِّل عليه أكثر من نقطة في عمليَّة التفاوض غير المباشرة، وفي ساحة الميدان، وخصوصاً في العمليَّات الأخيرة التي اعترف بأنَّه دفع فيها ثمناً باهظاً من قتلاه وجرحاه.
وفي موازاة ذلك، يتكشَّف المزيد من المقابر الجماعيَّة التي حاول الاحتلال إخفاءها تحت رمال غزَّة، وخصوصاً التي ارتكبها في المستشفيات والمراكز الصحيَّة، ولا سيَّما في مستشفى الشفاء، لتنكشف صفحة جديدة من صفحات حرب الإبادة الجماعيَّة التي حاول الاحتلال من خلالها دفع الفلسطينيّين إلى الهجرة وترك غزَّة أرضاً غير قابلة للحياة.
إنَّنا أمام هول هذه المجازر المتوالية، وأمام إصرار رئيس وزراء العدوّ على مواصلة حربه المجنونة لتحقيق بعض الأهداف التي عجز عن تحقيقها أمام المقاومة الفلسطينية الباسلة، نحيّي الشعب الفلسطيني على تصدّيه البطولي المتواصل لهذا العدوّ المدعوم بآلة القتل الأميركيَّة، والتي تحاول الإدارة الأميركيَّة الإيحاء بأنها خفَّفت من حجم هذا الدعم لأسباب سياسية وانتخابية، ولكنها تواصل إمداده بكلّ وسائل العدوان والتغطية السياسية، والإعلان بأنه جزء من الأمن القومي الأميركي، وأن الالتزامات الأميركية حياله لا تتزعزع.
كما نحيّي المقاومة الفلسطينية بكلِّ فصائلها، والّتي تثبت يوماً بعد يوم عجز العدوّ عن كسر إرادتها ووقف عمليَّاتها، وندعو الدول العربية والإسلامية إلى القيام بواجباتها حيال هذا الشّعب، والتخلي عن دور الوساطة بينه وبين جلَّاديه، والعمل على رفع الصَّوت، أو حتى الإيحاء إلى العدوّ بأنَّ استمراره في حرب الإبادة هذه سوف تنعكس عليه، من خلال إفساحها في المجال للحركة في الشَّارع العربي والإسلامي، إذا كانت عاجزةً عن مدّه بوسائل المساعدة المباشرة، وعلى الأقلّ، لتبدو صورة هذا الشَّارع كصورة الحراك الطالبي في الجامعات الأميركيَّة والأوروبيَّة. وهنا نحيّي كلّ المواقف الحرة التي انبرت لتدافع عن الشعب الفلسطيني في الغرب، في الوقت الذي تحسب الدول العربية والإسلامية أكثر من حساب إذا أرادت أن تبدي رفضها للحرب الصهيونية المتواصلة.
إننا نعتقد أن الطريق أمام العدوّ بات مسدوداً ــ كما يعترف بذلك قادة أجهزته الأمنية ــ وأن سعيه للهروب إلى الأمام بالمزيد من المجازر على رفح لن ينقذه من المستنقع الَّذي غرق فيه، لا سيَّما بعدما أظهرت المقاومة أمام شعبها والعالم حرصها على إنهاء الحرب، بعد قبولها بالاتفاق الأخير، لتحمّل بذلك العدوَّ المسؤولية في مواصلة الحرب، ما يزيد من عزلة الكيان، ومن تدهور سمعته الدولية، والتي لن ينقذه منها إمعانه في الحرب التي تزيد من مأزقه السياسي، سواء بتعرضه للمزيد من الإدانات العالمية، أو مأزقه العسكريّ، بعدما أخذت القوى المساندة في لبنان واليمن والعراق بتصعيد ضرباتها، ما سيدفعه أخيراً إلى الرضوخ لمطالب العالم بقبول الهدنة أو وقف إطلاق النَّار.
لبنان: لا تنازلَ للعدوّ
ونصل إلى لبنان الذي استطاعت المقاومة فيه أن تسدِّد ضربات مؤلمة للعدوّ في الأيام الأخيرة، اعترف فيها بعدد من القتلى والجرحى، وحاول أن يردَّ عليها بالمزيد من الغارات والتهديدات الَّتي كان آخرها قول وزير حربه بأنَّ الصَّيف القادم قد يكون ساخناً على الجبهة مع لبنان، في محاولة للتهويل مجدَّداً على اللبنانيين ومقاومتهم الَّتي عرفت كيف تتعامل مع هذا العدوّ، وتردّ كيده إلى نحره، وتجعله يعترف بأنَّ لجوئه إلى خيار الحرب الواسعة سوف يجعله يدفع الثَّمن مضاعفاً، وهذا ما يؤكِّد أنَّ قرارها بفتح المعركة مع العدوّ غداة السابع من أكتوبر مساندةً للشعب الفلسطيني، وحماية للبنان وأهله، كان قراراً صائباً.
وهنا نؤكِّد أنّ على اللّبنانيين الحفاظ على وحدتهم وتماسكهم، وخصوصاً بعدما وصل ردّهم إلى العدوّ على المبادرة الفرنسيّة، ومؤدّاه أن لبنان ليس في موقع الضّعيف لكي يتنازل للعدوّ، بل على العدوّ أن يوقف اعتداءاته وحربه على غزّة، وأن يلتزم بالقرار 1701 قبل أن يطلب من اللّبنانيّين تنفيذه أو يبعث بشروط جديدة.
إن لبنان أمام مرحلة صعبة تستدعي الوحدة في المجالات كافّة، وخصوصاً أمام التحديات التي تتّصل بالفراغ في موقع الرئاسة الأولى، وملفّ النازحين، وصولاً إلى الأزمة الاقتصادية الصعبة التي أنهكت البلد في السنوات الأخيرة، وبالتَّالي، فلسنا بحاجة إلى من يصبّ الزيت على النَّار، ويؤلّب بعضنا على بعض، أو الإيحاء إلى الموفدين وغيرهم بأنّ اللبنانيين على اختلاف في القضايا الرئيسة الّتي تمسّ سيادتهم وأمنهم ومستقبل بلدهم، بل هم كتلة واحدة في مواجهة المحتلّ، وفي العمل لحفظ البلد وصون أمنه واستقراره وسلامه الاجتماعي ومستقبل أجياله.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى