بأقلامنا

مات الذي جعل فرنسا كلَّها تقرأ بقلم الشاعر هنري زغيب

مات الذي جعل فرنسا كلَّها تقرأ
“نقطة على الحرف”
الحلقة 1672
“صوت كلّ لبنان”
الأَحد 12 أَيار 2024

صباح الإِثنين من هذا الأُسبوع فَقَدَ الوسَط الأَدبي في فرنسا الكاتب والإِعلامي الشهير برنار پـيڤو Pivot عن 89 سنة غنيةً بالنتاج الأَدبي الفريد والحضور التلفزيوني الأَشهر. وعدا مؤَلَّفاته الغزيرة، ورئاسته لجنة “جائزة غونكور” الشهيرة خمسَ سنوات (من 2014 إِلى 2019)، سطعَت شهرتُه التلفزيونية خصوصًا في برنامجه الثقافيApostrophesعلى شاشة القناة الثانية France 2 مساءَ الجمعة من كل أُسبوع طيلة 15 سنة بدون انقطاع: من الحلقة الأُولى في 10 كانون الثاني 1975 إِلى الأَخيرة في 22 حزيران 1990 ما مجموعُه 724 حلقة.
شهرة هذا البرنامج أَنه كان يستضيف لكل حلقة مؤَلِّفًا صدَرَ له كتاب جديد، فيروح يحاوره ويناقشه مع ضيوف قرأُوه، وإِذا به يستقطب من فرنسا والعالَم الفرنكوفوني أَكبر نسبة مشاهدين فاقت أَيَّ برنامج ثقافي في تاريخ التلفزيون الفرنسي.
ومن فضائل هذا البرنامج أَنَّ الكتاب الذي تُناقشه الحلقةُ مساءَ الجمعة يكون صباح السبت متصدِّرًا واجهات المكتبات، فيتهافت القراء عليه ويروج في سرعة ضوئية فتنتقل آلافُ النُسَخ من الواجهات إِلى أيدي القراء وصفحات الصحف والمجلات. من هنا أَنَّ مجلة “باري ماتش”، غداة إِعلان وفاة پـيڤو، صدرت صباح الثلثاء وعلى غلافها صورته ومانشيت: “الرجُلُ الذي جعل فرنسا كُلَّها تَقْرأ”، وراح الإِعلام كلُّه يتحدَّث عن هذا الذي، عبْر جلسات إِملاء جماعية، حبَّب إِلى الفرنسيين لغتهم والقراءة والكتابة. وتصدَّرَ العباراتِ المشيِّعةَ قولُ الرئيس الفرنسي ماكرون: “سيبقى حامل رسالة شعبيًّا محبَّبًا إِلى الفرنسيين، علَّمَنا أَن نحب القراءَة والكتُب والمؤلفين، وأَن نُحبَّ لغتَنا ونفهمها أَكثر من خلال جلسات الإملاء التي كان يُلقيها”.
طبيعيٌّ أَن تنهمرَ أَغلفة المجلات والصفحات الأُولى من الصحف بصُوَرِهِ ونبذةٍ مفصَّلةٍ عنه وعن مؤَلفاته. لكنَّ اللافت كان على شاشة القناة الثانية France 2 في نشرتها المعتادة مساءَ الإثنين إِذ افْتَتَحَتْها مذيعةُ النشرة آن صوفي لاپـي بخبر وفاته ممتَدًّا إِلى حوار مع صديقه الكاتب عضو الأَكاديميا الفرنسية إريك أُورسيناOrsenna ، تلاه تقرير تلفزيوني مفصَّل استغرق 16 عشرة دقيقة، وتوزَّع باقي النشرة على دقيقتين وتسْع وخمسين ثانية (أَي أَقل من 3 دقائق) لزيارة الرئيس الصيني شي جين بنغ يومها، ولقائِه الرئيسَ الفرنسي ماكرون على أَهمية هذه الزيارة التاريخية لفرنسا تجاريًّا واقتصاديًا، وبقيَت لباقي النشرة حفنةُ دقائقَ وميضةٍ لأَخبار محلية وعالَمِية.
هكذا فرنسا كرَّمت كاتبها العبقريَّ الذي فقدتْه، فخصَّصَت له نصف نشرة الأَخبار كي تنعاه وتقدِّر خسارته. ذلك أَنَّ فرنسا تعرف كيف تُكرِّم مبدعيها وتقدِّمهم، عند الحدَث، على جمعية “بيت بو سياسة” عندها، فلا تجلُدُ الناس بأَخبار استقبالات رئيسها أَو رئيس حكومتها أَو تصاريح نوابها ووزرائها وتحرُّكات السفراء الأجانب فيها، وأَنباء رؤَساء أَحزابها وكُلِها النيابية وآرائهم المديدة ووجوهِهم غير السعيدة، حتى إِذا بقي بعضٌ من وقتٍ ضيِّقٍ ضئيل، تسخو على الثقافة والمبدعين بفقْرة متفرِّقات سريعة لا يتعدى واحدها بضعَ ثوان خجولة، لأَن مساحة النشرة كلَّها اجتاحها بيت بو سياسة العابرون الزائلون.
ويكفي أَن نلتفتَ إِلى جبين البانتيون قبل الدخول إِليه، فنقرأَ فوق المدخل عبارة “الوطن مَدِيْنٌ لكبار رجاله”، حتى نفهمَ كيف الوطن يُقِرُّ بفضل مبدعيه لأَنهم دائمون خالدون، ويعرفُ أَنَّ جميع مَن دونَهم مُوَقَّتون زائلون عابرون لا يستحقُّون كلَّ هذه البهرجة الإِعلامية الجوفاء في نشرات الأَخبار.
هـنـري زغـيـب

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى