بأقلامنا

صور بين التراث والحداثة بقلم الدكتور . حسن دياب باحث و مؤرخ

ارتبطت المسالة العمرانية والسكانية في مدينة صور في مطلع القرن العشرين بالمفاهيم والنظم الاجتماعية والقانونية التي كانت سائدة في المدة الأخيرة من العهد العثماني، لا سيما قانون الأبنية عام 1883 الذي شكّل قاعدة أساسية لبنية التخطيط العمراني، وأدى الى تحولات هامة في إعادة تركيب البناء المديني على أسسٍ سُميت في حينه التحديث العمراني. ونشير الى أبرز الاستنتاجات التي تُوضّح السمات الأساسية للتحولات العمرانية في صور خلال القرن العشرين: 1- تاثرت المدينة بالمفاهيم الحضارية الجديدة التي رافقت دخول الفرنسيين الى لبنان، وظهرت تلك التأثيرات جلية في محاولات إخضاع العمارة للنموذج العمراني الغربي. 2- شكلت الحقبة الإنتدابية منعطفاً بارزاً في تاريخ المدينة العمراني تجسّد في تكريسها كمركز للقضاء، ثم مركز للمحافظة بين عامي 1925-1930، فاستقطبت العديد من المؤسسات الرسمية والخاصة، وجعلها مركز جذب للسكان النازحين من المناطق الريفية وغيرهم . 3- ساهم دخول الإسمنت في تشييد المباني بإيجاد عنصر جديد كان له الأثر الكبير في النهضة العمرانية التي شهدتها المدينة، حيث جرى إبدال السقوف والأدراج الخشبية بالباطون المسلح. وبدأت حركة جديدة في العمارة المدينية المرتكزة على تقنيات حديثة في البناء، تراعي التعامل مع المواد الإنشائية المستحدثة، فاسحةً المجال أمام الزحف الباطوني كظاهرة تحديثية للعمارة المعاصرة. 4- استقطبت المدينة وضواحيها القريبة أعداداً كبيرة من اللاجئين الفلسطينيين بعد نكبة عام 1948، ومن النازحين اللبنانيين من قرى وبلدات الشريط الحدودي، ومن الهاربين والفارين من مناطق الاشتباكات خلال الحرب الأهلية ومن غيرهم ، الأمر الذي شكل ضغطاً متزايداً على الوضع السكني للمدينة، واشتد الطلب على تأمين المنازل. لقد إستغل بعض الرأسماليين والمتنفذين غياب الدولة لإقامة مشاريع سكنية ضخمة، حيث ملأت الفراغات الرملية، وتكدست الأبنية على بعضها متخذة امتداداً عمودياً، واشكالاً عشوائية، عززها غياب المخططات التوجيهية الضرورية. واللافت أن ظاهرة توسع المدينة ونموها في تلك الفترة حدث بمعزل عن الرقابة والتخطيط المديني، وفي غياب إتباع قوانين الإرتفاع وتصاميم المباني وبالتالي عدم مراعاة علاقتها بالموضع والموقع. 5- ساهمت عودة الدولة منذ إتفاق الطائف، واستتباب الأمن والسلم الأهلي، التي شهدتها المدينة بعد انتهاء الحرب الأهلية بإعادة الإعتبار الى قوانين البناء، واحترام أنظمة العمران المديني. فأزيلت بعض المخالفات خاصة في احياء المدينة القديمة حيث يُمنع فيها البناء بشكل كامل. وأطلقت البلدية بالتعاون مع الهيئات الدولية ومديرية الآثار مشروع تأهيل واجهات المباني التراثية، ومشروع حماية الإرث الثقافي للحفاظ على الأبنية التراثية والمعارية القديمة. 6- مع مطلع التسعينات، وبسبب الكثافة السكانية في المدينة ومنطقتها، واستقرار الوضع السياسي والأمني، شهدت صور نهضة تربوية وثقافية وسياحية كبيرة ، تجلّت بقيام الجامعات الرسمية والخاصة، والفنادق، والمطاعم، والتعاونيات، والمنتجعات السياحية والمستشفيات، والمراكز الثقافية والأندية والجمعيات على أنواعها، حتى أصبحت صور مقصداً للسائحين اللبنانيين والأجانب. وأصبح شاطيء صور الذهبي من أهم الشواطيء اللبنانية، حيث يقصده اللبنانيون من مختلف المناطق للتمتع بالسباحة البحرية خلال فصل الصيف، وحضور مهرجانات صور الدولية التي تقام سنوياً في الملعب الروماني الأثري. ونعتقد أخيراً بأن المدن التاريخية، ومنها مدينة صور، ليست مجرّد تجمع لأبنية أثرية، ولا هي تُحف تُحفظ في المتاحف، بل هي أولاً وقبل كل شيء، أنسجةٌ حية ترتبط ببيئتها، وتتفاعل مع محيطها الانساني. فبدلاً من التركيز على تحويل المدينة التاريخية الى تُحفة فنية تُوضع خارج الحياة، يُمكنُ العملَ على إيجاد دَورٍ جديدٍ لها ينطلق من الإقرار بقيمتها الفريدة كمركز للتاريخ الحي، ولا يلغي في الوقت عينه، مواكبتها وارتباطها بمفاهيم الحداثة العمرانية، وبالتالي توثيق علاقاتها بالعالم المعاصر، والحرص على إقامة التوازن بين أصالة المدينة وهويتها التاريخية من جهة، والمستجدات المتنامية للتقنيات الجديدة، والمتغيرات المتسارعة على كافة المستويات في زمن الحداثة وما بعد الحداثة من جهة أخرى. لذا بات على السلطات المسؤولة وضع ضوابط صارمة، تقضي بإتخاذ مجموعة من الإجراءات والتدابير القانونية التي من شأنها الحد من عملية التوسع العمراني العشوائي في مدينة صور وضواحيها القريبة التي تشكل إمتداداً طبيعياً لنموها السكاني، وذلك بإعتماد الطرق والأساليب التالية: – التخطيط الإستراتيجي لإستعمالات الأرض، وإنسجامها مع الأهداف التنموية العامة للمدينة وضواحيها المجاورة ( كالأبنية السكنية، والطرقات، والمناطق الزراعية، والمحلات التجارية، والمصانع، والخدمات العامة، وغيرها…..) . – الحفاظ على مساحات خضراء تنسجم وتتلاءم مع النمو السكاني والعمراني لمجتمع المدينة. – ترشيد وتنظيم النمو العمراني والتجمعات السكنية في الضواحي، في إطار من التناغم والتنسيق بين تأمين حاجيات السكان المستجدة من جهة، ومصلحة المدينة الكبرى من جهة ثانية. – الحرص على إبراز الهوية التاريخية والوطنية للمدينة، من خلال المحافظة على آثارها، وإعادة بناء وترميم الأبنية التراثية التي تشكل بمجملها الذاكرة الحيّة للسكان، وتفعيل صناعة الأشغال اليدوية والحرفية بإقامة معرض دائم لهذه المنتجات في قلب صور القديمة، وتنشيط قطاع النجارة والخشب خاصة تلك المتعلقة منها في بناء السفن والمراكب الشراعية، وإعادة ترميم الخانات والأبنية التراثية لتشكل بمجملها معالم سياحية وثقافية وحضارية . – وضع مخططات توجيهية واحدة لصور وضواحيها تُراعى فيها مسألة النمو السكاني المتزايد مع الحرص على البيئة الطبيعية الجميلة التي تتميز بها المدينة.

باحث ومؤرخ

إفتتاحية مجلة هلا صور الشهرية الورقية \ شهر ايار 2021

زر الذهاب إلى الأعلى