تحقيقات

150 سنة على ولادة الانطباعية (1 من 3) بقلم الشاعر هنري زغيب

المصدر: بيروت- النهار العربي

من 26 آذار/مارس الماضي إِلى 14 تموز/يوليو المقبل: متحف أُورساي (Musée d’Orsay) في باريس يضمُّ مجموعةً رائعة ونادرة من 130 لوحةً، احتفاءً بمرور 150 سنة على “ولادة” الفن الانطباعي يومَ شهدَت باريس، مساءَ الأَربعاء 15 نيسان 1874 ولشهر كامل (حتى 15 أَيَّار/مايو 1874) أَول معرض لمجموعة فنانين شباب يومها عُرفوا بــ”الانطباعيين”، لنقْلهم انطباعاتٍ من مناظر ومشاهد، في الطبيعة أَو عاينوها أَمامهم، فترجموها لوحاتٍ انطباعية.
في هذا المقال (من ثلاثة أَجزاء) أَعود 150 سنة من الزمان لأَسرد مسيرة الانطباعية منذ ولادتها.
ذلك المعرض في باريس
كانوا مجموعة رسامين شباب، أَرادوا أَن يخترقوا الموجة السائدة في وسطهم الفني، وأَن يستقلُّوا عنه، فعرضوا لوحاتهم التي أَثارت في الجمهور حينها موجة استغراب. وظهرت أَسماؤُهم في التداوُل العريض: كلود مونيه (1840-1926)، أُوغست رُنوار (1841-1919)، إِدغار دوغا (1834-1917)، بِرت موريزو (1841-1895)،  كميل بيسَّارُّو (1830-1903)، أَلفرد سيسلي (1839-1899)، بول سيزان (1839-1906).
لوحة بِرت موريزو “امرأَة تَقرأ في الطبيعة”
نادار “الجريء”
يومها عرضَ كلُود مونيه لوحته “شُرُوق الشمس”. وكانت لوحات رفاقه مطبوعة أَيضًا بما شاهدوه فرسموه. واندلع المعرض بظاهرة الانطباعية تولّى تنظيمَها المصورُ الفوتوغرافيّ نادار (اسمه الأَصلي فيلكس تورناشون: 1820-1910). وهو “تجرَّأَ” على تبنِّيه عرضَ تلك الأَعمال التي لم تجِدْ مكانًا آخَر لعرضها، بسبب مواضيعها “الانطباعية” التي اعتُبِرت يومها مسطَّحة وساذجة. ولم يحدُس أَحد فترتئذٍ أَن يكون هذا التيار “الجديد” من أَبقى الفنون على الإِطلاق.
“متحف أُورساي”، في إِحيائه هذه الذكرى، يستعيد رسْم المسيرة التي أَطلقَت تيَّارًا فنيًّا جديدًا وسْط موجات متعدِّدة حوله من تيارات فنية أُخرى. فمعرض 1874 يومها جمع أَعمال 31 رسامًا شابًّا (بقي منهم اليوم سبعةٌ خالدون، هم الذي ذكَرْتُهُم أَعلاه).
صورة مبنى “نادار” حيث أُقيم معرض 1874
نحو لغة تشكيلية جديدة
كانت فرنسا فترتئذٍ طالعةً من أَزمَتَين: الحرب الفرنسية الأَلمانية (1870)، وحرب أَهلية ذات صدامات دموية عنيفة عُرفَت بــ”كومونة باريس” (18 آذار/مارس – 7 حزيران/يونيو 1871), وبانتهاء تينِك الأَزمتَين وما نَـجَمَ عنهما، كان على الفنانين أَن يُعيدوا النظر في أَساليبهم الفنية ومواضيعهم، ويبحثوا عن لغة تشكيلية جديدة. وفي هذا الجو رسم مانيه لوحته الشهيرة “الحرب الأَهلية (1871).
انفرد أُولئك الرسامون الشباب فــ”تمرَّدوا وثارُوا” على الـمُتَّبع السائد فترتَئذٍ، وأَخذوا يرسمون واقع بيئتهم، أَو مشاهدَ بأَلوان مُشْرقة من الحياة اليومية حولهم، أَو مناظرَ في الهواء الطلق مباشرةً دون أَن يجلسوا داخل محترفاتهم ويرسموا. أَرادوا تناوُلَ ما يشاهدونه حولهم في الخارج ونقْله فورًا إِلى قماشاتهم البيضاء. كلُّ ما كانوا يرمون إِليه: نقْلُ الانطباعات التي تختلج فيهم أَمام تلك المناظر والمشاهد. من هنا اشتهرت أَعمالهم بـ”الانطباعية”.
لوحة مانيه “الحرب الأَهلية” (1871)
بادرة “متحف أُورساي”
ما يرمي إِليه “متحف أُورساي” من معرضه الـمُعَنْوَن “باريس 1874”: أَنه اختار مجموعة أَعمال انطباعية كانت معروضةً عامئذٍ (1874)، يعرضها حاليًّا مع مجموعة أُخرى من اللوحات والمنحوتات الْكانت معروضةً فترتئذٍ في المعرض الآخَر: “الرسمي” السنوي المعتاد. وهذا الجمْع بين المجموعتَين يُظهر “الصدمة” التي أَثارتها أَعمال “أُولئك الشباب” في معرضهما الجَماعي الأول، حيال ما كان معروضًا ويأْلفه الجمهور في “معرض باريس” السنوي العادي.
من هنا أَن زوار “متحف أُورساي” سيلاحظون التناقُض والغنى التشكيلي في ربيع 1874، وما كان فيه يومها من حداثة في أَعمال أُولئك الرسامين الشباب الذين لفتوا بِلُغتهم التشكيلية “الانطباعية التجديدية” المطلَّة على ذاك الجمهور. ولتخليد تلك “الصدمة الجمالية” في حينها، سيتمُّ في 8 أَيلول/سبتمبر المقْبل  2024 نقْلُ هذا المعرض من “متحف أُورساي” في باريس إِلى المتحف الوطني للفنون في واشنطن حتى 20 كانون الثاني/يناير 2025.
واجهة “متحف أُورساي” في قلب باريس
 
معرضان في موعد واحد
في هذا الهدف: معرضان تَـمَّا في موعد تاريخي واحد. هكذا  يكون الحدث فعلًا تاريخيًّا في إِطلاقه ما كان، عامئذٍ، تأْريخًا فعليًّا لحركة تشكيلية تحوَّلت تيارًا تأَثَّر به لاحقًا كثيرون في فرنسا وحتى خارجها. ولهذه الغاية تَشكَّلَ، في “متحف أُورساي”، جناحان: الأَول للَّوحات الفعلية، والآخَر معرض “إِلكتروني” (“افتراضي” في التعبير السائد)، وهي ظاهرة تحدث للمرة الأُولى في حركة الفن التشكيلي، غايتُها عرضُ أَكبر عدد ممكن من الأَعمال التي لم يكن يمكن الحُصُول عليها لعرضها.
في واشنطن لن يكون الجناح الإِلكتروني، بل سيضم المعرض 157 عملًا انطباعيًّا، بينها 39 لوحة مستعارة من “متحف أُورساي” و 8 لوحات مستعارة من “المتحف الوطني” في باريس، وستُجمَع اللوحات الباقية من متاحفَ ومجموعاتٍ خاصة في مختلف أَنحاء العالم.
في الجزء الثاني من هذا المقال:
ما هو المعرض الإِلكتروني في “متحف أُورساي”؟ ولماذا؟ 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى