بأقلامنا

ما زال أبو ذر الغفاري يمشي وحده 🖋 كتب د. وليد القططي. أبو أحمد

مقال قديم لكنه مناسب للواقع الحالي كتبه عضو المكتب السياسي للجهاد الاسلامي الدكتور وليد القططي حفظه الله
…………
ما زال أبو ذر الغفاري يمشي وحده

🖋 كتب د. وليد القططي. أبو أحمد

المخرج من المأزق الفلسطيني الحالي لن يكون عبر إعادة إنتاج النظام السياسي الذي قادنا إلى مأزقي السلطة والانقسام، ولكنه سيكون عبر الوضوح التام في تحديد طبيعة المرحلة.
روى ابن كثير في “البداية والنهاية” أنَّ الصحابي عبد الله بن مسعود كان قادماً من الكوفة وسط قافلة من المسلمين، قاصداً المدينة المنورة، فمرَّ في طريقه على الربذة، فوجد أبا ذر الغفاري ميتاً ينتظر الدفن، وإلى جانبه امرأته وغلامه فقط، فبكى وقال: “صدق رسول الله القائل: يرحمُ اللهُ أبا ذر، يمشي وحده، ويموتُ وحده، ويُبعثُ وحده”.

لم يكن أبو ذر الغفاري يمشي وحده على رجليه في غزوة تبوك متأخّراً عن جيش المسلمين بقيادة الرسول فقط، بل كان يمشي شاقاً نهجه الخاص في الحياة؛ ذلك النهج الثوري الرافض لأيِّ انحراف عن مبادئ الإسلام كما أُنزلت في القرآن والسُنّة، والثائر في وجه أيّ تفريط بحقوق المستضعفين كما أقرّها اللهُ ورسولهُ. ولذلك، وصفه الرسول قائلاً: “ما أظلَّتِ الخضراءُ ولا أقلَّتِ الغبراءُ من ذي لهجةٍ أصدقَ من أبي ذرٍّ”.

بهذا المنطق الصّادق، عاش حياته يدعو إلى أمانة الحكم وعدالة الثروة، وشعاره وصيَّة رسول الله له: “أمرني خليلي أن أقول الحق وإن كان مُرّاً”، ومُحرّضاً الفقراء على انتزاع حقوقهم من الأغنياء، بقوله: “عجبتُ لمنْ لا يجدُ القوتَ في بيتهِ كيف لا يخرجُ على الناسِ شاهراً سيفَه”. بهذا المنهج الثوري المتمسك بالمبادئ والحقوق، ظل أبو ذر يمشي وحده، حتى مات وحده في الزبدة ما بين العراق والحجاز.

ثمة ثائرٌ آخر سار على درب أبي ذر الغفاري في التمسّك بالمبادئ والحقوق، فكان يمشي وحده عندما أنشأ حركة “الجهاد الإسلامي” في فلسطين وقادها في مطلع ثمانينيات القرن العشرين، هو الشهيد فتحي الشقاقي – رحمه الله – الّذي اكتشف كلمة السرّ الجامعة بين الإسلام وفلسطين والجهاد… وأنهى الفصام النكد بين الدين والوطن، وجمع بين الإيمان والوعي في بوتقة الثورة، وألّف بين الوطنية والقومية في إطار الأمة الإسلامية… فقاده إيمانُه ووعيُه إلى إعلانِ الثورةِ المستحيلة، رغم حُطام الهزيمة ورُكام الإحباط، فبدا وكأنَّ قدر كلّ ثائر أنَّ يمشي وحده تماماً كأبي ذرّ الغفاري.

وكما حذّر أبو ذر قومَه من مخاطر الانحراف عن المبادئ والحقوق في ممارسة السلطة وتوزيع الثروة، فلم يسمعوا له، حتى وقعوا في المحظور بعد الخلافة الراشدة، حذّر الشقاقي شعبه من مخاطر الانحراف عن المبادئ والحقوق بعد توقيع اتفاقية “أوسلو”، فاستبصر بعقله ورأى بقلبه مآلها بتكريس الاحتلال والاستيطان والتهويد والانقسام والتطبيع، وهو ما حدث بعد تبدد الوهم الخادع، فمات شهيداً وحده في مالطا ما بين إيطاليا وليبيا.

إخوة الشقاقي وتلاميذه في حركة “الجهاد الإسلامي” ساروا على نهجه ودربه؛ نهج التمسك بالمبادئ والحقوق ودرب الجهاد والمقاومة، من دون تراجع أو تهاون أو انحراف. وأمام دعاة التصالح من أبناء شعبهم، صدحوا بـقصيدة “لا تصالح” للشاعر المصري الثائر أمل دنقل، فاتخذوها نبراساً يُضيء طريقهم: “لا تُصالح ولو منحوك الذهب.. أترى حين أفقأ عينيك.. ثم أثبت جوهرتين مكانهما.. هل ترى؟ هي أشياء لا تُشترى.. لا تُصالح، ولو قال من مال عن الصدام.. ما بنا طاقة لامتشاق الحسام.. لا تُصالح ولو قيل من كلمات السلام.. سيقولون: ها أنت تطلب ثأراً يطول.. فخذ الآن ما تستطيع.. قليلاً من الحق.. لا تُصالح ولو قيل إنَّ التصالح حيلة.. إنَّه الثأر.. تبهت شعلته في الضلوع.. إذا توالت عليه الفصول.. ثم تبقى يد العار مرسومة.. فوق الجباه الذليلة”.

لم يستمع فريق من الفلسطينيين إلى أمل دنقل، وذهبوا إلى التصالح، بعد أنْ سكّنت عقولهم فكرة تقاسم فلسطين بدلاً من تحريرها، وتشرّبت قلوبهم فكرة التعايش مع الاحتلال بدلاً من مقاومته، وفعلت عوامل التعرية الوطنية فعلها، فنحتت في صخرة المبادئ والحقوق فأوهنتها، وأثمرت جهود الترويض السياسي ثمارها المُرّة على شجرة الواقعية السياسية فأثقلتها، وكانت النتيجة بعد الخروج من لبنان وانهيار الاتحاد السوفياتي وتلاشي التضامن العربي، الانزلاق إلى هاوية “أوسلو”، ثم السقوط في هاوية السلطة، والتردّي في قاع الانقسام، فخالفنا بذلك ما فعلته حركات التحرر الوطنية في كل العالم، والتي تُحرر الأرض من الاحتلال، ثم تُقيم عليها سُلطتها الوطنية ودولتها المستقلة، فأصبح ذلك الوضع الشاذ هو الأصل الذي جُرَّ إليه بقية الفلسطينيين، وباتت تنطبق علينا قصيدة “الثور والحظيرة” للشاعر العراقي أحمد مطر، التي كتبها بعد أنَّ لحق العرب بمصر عندما وقعت اتفاقية السلام مع الكيان الصهيوني، ومنها: “الثور فرَّ من حظيرة البقر.. الثور فر.. فثارت العجول في الحظيرة.. تبكي فرار قائد المسيرة.. بعد عام وقعت حادثة مُثيرة.. لم يرجع الثور.. ولكن ذهبت وراءه الحظيرة”.

هذا الواقع الشاذ الذي نشأ بعد اتفاقية “أوسلو” وسلطتها، يُراد لجميع الفلسطينيين الدخول في حظيرته، ومن يظلّ خارج الحظيرة، فسيُتهم بعدم الواقعية والانعزالية، وسُيرمى بالعبثية والهزلية، وسيتهمه فلاسفة الهزيمة بعدم امتلاك البديل والسير خلف حلم عليل، وقد يُتهم بالعمل لأجندة أجنبية والخروج عن الصف الوطني.

وبذلك، يتم تجريمه بتصوير موقفه الطبيعي من الاحتلال كموقف شاذ عن المجموع الوطني، لأنَّه يتمسك بالأصل في التعامل مع الاحتلال فقط، وهو مقاومته ورفض التعايش معه، والإصرار على عدم المشاركة في لعبة الإلهاء الكبرى التي تُبعد الشعب الفلسطيني عن إنجاز هدفه الوطني بالتحرير.

إنَّ استراتيجية الإلهاء هدفها التحكم بالشعب الفلسطيني ليبقى مشغولاً باستمرار بعيداً من أهدافه الوطنية الحقيقية، عن طريق عشرات “الأُلهيات الجزئية”، بحسب نظرية التحكّم لصاحبها نعوم تشومسكي، وتعمّد إلهاء الشعب بالحقوق الجزئية الصغيرة كي لا يطالب بحقوقه الأساسية الكبيرة، بحسب نظرية الاستحمار لعلي شريعتي، وإبقاء الشعب يدور في حلقة مفرغة بعيداً من هدفه الأساسي، باختراع هدف وهمي ينشغل به عن هدفه الحقيقي، بحسب نظرية “التجميد” لمالك بن نبي.

كل هذه الاستراتيجيات تؤدي إلى نتيجة واحدة، هي التعايش مع الاحتلال، عن طريق إقامة نظام سياسي فلسطيني تحت الاحتلال وإلى جانبه، ينشغل فيه الفلسطينيون بأنفسهم بالتنافس الحزبي والصراع على السلطة، بينما يمرّ الاحتلال والاستيطان والتهويد من تحت أرجلهم، في حالة من التعايش التي تُطيل أمد الاحتلال.

المخرج من المأزق الفلسطيني الحالي لن يكون عبر إعادة إنتاج النظام السياسي الذي قادنا إلى مأزقي السلطة والانقسام، ولكنه سيكون عبر الوضوح التام في تحديد طبيعة المرحلة، وأهداف المشروع الوطني، واستراتيجية التحرير المناسبة لطبيعة المرحلة وأهداف المشروع.

وفي البداية، لا بد من الإقرار بحقيقة أنَّ فلسطين مُحتلة من بحرها إلى نهرها، على الرغم من الاختلاف في تفاصيل الاحتلال، والاتفاق على أنَّ الشعوب تحت الاحتلال تعيش مرحلة الكفاح الوطني التحرري، وتضع أهداف مشروعها الوطني بناء على ذلك.

وفي الحالة الفلسطينيّة، تتمثّل أهداف المشروع الوطني في تحرير الأرض وعودة اللاجئين وإنجاز الاستقلال الوطني، وتكون استراتيجية التحرير المناسبة لتلك الأهداف هي الصمود الشعبي والمقاومة الشاملة، وأي نظام سياسي فلسطيني في مرحلة الكفاح الوطني ينبغي أن تكون بوصلته تحقيق أهداف المشروع الوطني، وأي نظام سياسي بخلاف ذلك سيؤدي إلى التعايش مع الاحتلال، وهو ما يهدم أساس المشروع الوطني الفلسطيني القائم على مقاومة الاحتلال والتخلّص منه.

ولإقامة نظام سياسي بوصلته المشروع الوطني، لا بد من الفصل بين السلطة والمنظمة، لتبقى وظيفة السلطة إدارة شؤون الفلسطينيين في الداخل، ومهمتها دعم صمودهم داخل وطنهم، وتبقى وظيفة المنظمة توجيه الشعب الفلسطيني وحركته الوطنية في الداخل والخارج، ومهمتها قيادة مقاومتهم وكفاحهم الوطني.

وحتى يتحقّق ذلك، سيبقى “الجهاد الإسلامي” يسير على درب أبي ذر، فإن لم يستطع القيام بدور التغيير المنشود، فلن يتخلّى عن دور الشهادة على الواقع والشهيد على المرحلة، حتى يتغير الواقع وتتبدل المرحلة. ويومئذٍ، يفرحُ المؤمنون الثابتون بنصر الله “أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ”

زر الذهاب إلى الأعلى