شارك بمسابقة شهر رمضان المبارك للعام ــ 1445 هـ . ـــ 2024 م . وأربح جوائز مالية نقدية Info@halasour.com
تحقيقات

هل يبقى مكسورًا حلْمُ فان غوخ؟ (2 من 2) بقلم الشاعر هنري زغيب

المصدر: بيروت- النهار العربي

سرَدتُ في الحلقة السابقة قصة رجلُ الأَعمال البلجيكي دومينيك شارل جانْسِنْسْ Janssens لأنه وشرائه نزْل راڤو Ravoux الذي عاش فيه ڤان غوخ الأَسابيع الأَخيرة من حياته، وفيه تُوُفي عن 37 سنة على سرير غرفته الضيِّقة نهار 29 تموز 1890. وحوَّل جانْسِنْسْ ذاك النزْل إِلى “مؤَسسة ڤان غوخ” مستقبلًا فيها آلاف الزوار والسياح سنويًّا لزيارة المكان الذي مات فيه الرسام ولم يَبِعْ في حياته سوى لوحة واحدة، وهو اليوم صاحب أَعلى ثمن لوحات في العالَم.

 

لا إِعارة ولا شراء

منذ اشترى جانْسِنْس هذا النزْل، وهو يحاول جاهدًا تحقيق حلْم ڤان غوخ بعرض لوحة له أَو أَكثر في مقهى. لكنه يصطدم دومًا بعوائق أَمنية أَو إِدارية. فبعدما كاد يتوصل إِلى استحصال الإِذْن بعرض لوحة “حديقة في أُوڤير” (رسمَها ڤان غوخ في حزيران/يونيو 1890، قبل 11 شهرًا من وفاته منتحرًا) توقَّف المشروع في اللحظة الأَخيرة. وبعدما توصل إِلى اتفاق مع شاري اللوحة (فرنسي مقيم في سويسرا) على استعارة اللوحة شهرين فقط لعرضها في النزْل، قام بالترتيبات اللوجستية الضرورية (باب حديدي مُقَوَّى، نظام مراقبة إِلكتروني متطوِّر، تمديدات ثابتة ضد الحريق، …) ما كلَّفه نحو 400 أَلف يورو، وهو مبلغ جدير بتحصين أَيِّ متحف كبير في العالم. ولكن… قبل أَربعة أَيام على موعد سحب اللوحة من الخزنة الحديدية في مصرف خاص، تبلَّغ جانْسِنْسْ برقيةً من وكيل الشاري الفرنسي أَن الإِجراءات تبدو غير كافية لإِخراج لوحة “حديقة في أُوڤير” وعرضها لشهرين.

لماذا هذه اللوحة بالذات؟ لأَنها مُغايرة بين أَعمال ڤان غوخ الأَخيرة، فهي تزيينية زخرفية على تجريدية واضحة أَكثر من سائر لوحاته للمناظر الطبيعية، مُشَكَّلَة تنقيطيًّا من زوغة أَلوان، رسمها من زاوية عالية ناظرًا إِليها من فوق. ويرجَّح أَنه استوحاها من حديقة الرسام الراحل شارل فرنسوا دوبينـيـي (1817-1878) وكانت أَرملته تسكن في بيته الذي لا يبعدُ سوى خمس دقائق عن “نزل راڤو” حيث كان يعيش ڤان غوخ.

جانْسِنْسْ يحمل “حديقة في أُوفير” داخل خَزْنة المصرف 

رحلة” اللوحة

نقَّلَت لوحة “حديقة في أُوڤير” مرارًا بين شارٍ وآخَر. فسنة 1992 اشتراها المصرفي الثري جان مارك ڤيرن (1922-1996)   بمبلغ 10 ملايين دولار. ولدى وفاته بعد أَربع سنوات دخلت اللوحة مزادًا علنيًّا في پاريس، إِنما قبل يومين من موعد المزاد صدَر في الصحافة أَنها نسخةٌ مزوَّرة وليست لوحة ڤان غوخ الأصلية، فسُحِبَت اللوحة من المزاد. وبقيَ الأَمر مُعلَّقًا غيرَ مُثْبَت حتى أَكَّد أَصليَّتها الحقيقية “متحف ڤان غوخ” في أَمستردام ومتحف دورساي في پاريس. انطلاقًا من هذا التأْكيد، عاد ورثة جان مارك ڤيرن فعرضوا اللوحة عبر العميل الفني مارك أَرثر كوهْن في مزاد خاص غير علني، واشتراها شخص لم يشأْ أَن يُعلن عن اسمه، لكنه توفي بعد سنتين من اقتنائه اللوحة فذهبَت إِلى ابنَتَيه الوريثَتَين.

 لوحة على مدخل النزْل: سُكْنى فان غوخ ووفاته فيه 
 

 

على لائحة “الكنوز الوطنية”

سببٌ آخَرُ عقَّدَ تحقيقَ جانْسِنْس حلْمَ ڤان غوخ بعرض اللوحة في النزْل: فسنة 1989 سجلت الدولة الفرنسية هذه اللوحة على “لائحة الكُنُوز التراثية الوطنية”، ما يعني منْعَ خروجها من فرنسا وتخفيضَ قيمتها المادية. فلولا هذا المنع لكان ثمن اللوحة يبلغ 150 مليون يورو، لذا – وهي ضمن فرنسا فقط – يقتصر ثمنها على نصف هذا المبلغ.

“حديقة في أُوڤير” لم تكن اللوحة الوحيدة التي حاول جانْسِنْسْ شراءَها أَو استعارتها لتحقيق حلم ڤان غوخ. فسنة 1990 كاد أَن يتمِّم الاتفاق مع “متحف پوشكين في موسكو” لاستعارة إِحدى اثنتَين: لوحة “الكَرْمة الحمراء” (رسمها ڤان غوخ في تشرين الثاني/نوڤمبر 1888 وهي اللوحة الوحيدة التي باعها في حياته)، أَو لوحة “منظر طبيعي مع القطار” (رسمَها في حزيران/يونيو 1890). ولما كان الاتفاقُ بين الدُوَل يتطلَّب موافقة السلطات الفرنسية المعنية، رفضت فرنسا إِخراجها بحجة أَن النزْل ليس متحفًا معترفًا به رسميًّا.

شاهدة ضريح فان غوخ قرب كنيسة القرية

محاولاتٌ غير يائسة

ولم ييأَس جانْسِنْسْ: في مطلع 2008 حاول شراء (لا استعارة) لوحة “الحقول” (رسمَها ڤان غوخ في تموز/يوليو 1890). ومع أَنه أَمَّن دعمًا ماديًّا واثقًا من مصرف أَميركي كبير، بقيَ ثمنها مرتفعًا جدًّا حيال الأَزمة المادية الاقتصادية الأَميركية عامئذٍ. ومع زوال تلك الأَزمة عرَض اللوحةَ صاحبُها في مزاد “سوثبيز” العلني سنة 2017 بمبلغ 28 مليون دولار لكن الثمن بقي باهظًا فلم يشترِ اللوحةَ أَحد، وعادت إِلى شاريها.

مع ذلك ظَلَّ جانْسِنْسْ على تفاؤُله بتحقيق حلْم ڤان غوخ، وصرّح يومها للصحافة: “ما زلت متفائلًا أَنْ أَستعير لوحة “حديقة في أُوڤير” من شاريها الجديد إِن كانت ستباع. وعيني على لوحات أُخرى لڤان غوخ في أُوڤير هي اليوم لدى أَصحاب مجموعات خاصة. أَنا مصمِّم نهائيًّا على تحقيق حلم ڤان غوخ”.

غرفة فان غوخ حاليًا في علّيّة النزْل 

 

لا تخرج من خَزْنتها الحديدية

ولكن… فيما لا يزال جانْسِنْسْ يخطِّط لتحقيق الحلم الكبير، خرجَت “حديقة في أُوڤير” هذا الشهر من خَزْنتها الحديدية في المصرف، إِلى معرض كبير موضوعُه: “ڤان غوخ في أُوڤير: لوحاتُ الأَشْهُر الأَخيرة” لدى مُتحفَين كبيرَين: “متحف ڤان غوخ” في أَمستردام (من 12 أَيار/مايو الحالي إِلى 3 أَيلول/سپتمبر المقبل)، ثم إِلى “متحف دورساي” في پاريس (من 3 تشرين الأَول/أُكتوبر إِلى 4 شباط/فبراير 2024).

مع ذلك… مع كل ذلك، لم يَيْأَسْ  جانْسِنْسْ، وسجَّل العام الماضي وحده وصول 220 أَلفًا يرفض أَن يسمِّيهم زوارًا بل يراهم “حجَّاجًا ثقافيين” يقصدون النزْل، يجلسون في مقهاه، يصعدون إِلى الغرفة/العلّيّة الضيِّقة (7 أَمتار مربعة فقط – عاش فيها ڤان غوخ وفيها تُوفِّي)، ثم يخرجون إِلى ناحية كنيسة القرية التي عند جانبها ضريح ڤان غوخ، فتكتمل الزيارة، ويعود حجَّاجُها ممتلئين رُؤًى من سيرة هذا الفنان الذي انقصف في ربيعه السابع والثلاثين ولم يَبِعْ في حياته القصيرة سوى لوحة واحدة، وها لوحاتُه اليوم بين الأَرفع قيمةً فنيةً وماليةً في العالم، يتهافت عليها مُدراء المتاحف ليعرضوها فيهفو إِليها الزوار يقفون أَمامها في اندهاش.

لكنها جميعها لم تبْلُغ بعدُ تحقيق حلْم الفنان بعرض لوحاته في مقهى شعبي، أَقلَّه في مقهى النزْل الذي قضى فيه آخر 70 يومًا من حياته قبل أَن يقضي على حياته… برصاصة.

زر الذهاب إلى الأعلى