بأقلامنا

هكذا نَنقُل تراثَ لبنان إِلى الجيل الجديد بقلم الشاعر الكبير هنري زغيب

هكذا نَنقُل تراثَ لبنان
إِلى الجيل الجديد
“نقطة على الحرف” الحلقة 1585
“صوت كلّ لبنان”
الأَحد 11 أَيلول 2022

جَمَعَتْني هذا الأُسبوع جلسةٌ ذاتَ غُرُوب، مع كوكبة شبابٍ مثقَّفين، في مقهى هادئٍ وسْط السوق العتيق في زوق مكايل.
كانت سعادتي بهم مزدوجة: أَنهم أَحبُّوا الإِصغاء إِلى نظرتي في التراث اللبناني والحضارة اللبنانية أَعلامًا وعلامات، وأَنهم من جيل شابٍّ طالعٍ على الحياة مشبوكًا بشُكوكٍ وأَسئلةٍ وتطلُّعات.
حين اختاروا لقائي في ذلك المقهى ما كانوا يعرفون أَنه مَعْلَمٌ أَدبيٌّ رئيسٌ في حياة شاعر. حتى إِذا أَخبرتُهُم أَنه المقهى الذي كان يرتاده الشاعر الياس أَبو شبكة، لَهَفَ إِصغاؤُهم فاستزادوا فَرُحْتُ أَبسطُ لهم موقع هذا المقهى في حياة الشاعر، كيف كان يجلس فيه مُطْرقًا إِلى الطاولة، في يده قلمُه، أَمامه ورقة بيضاء يبثُّها أَبياتًا أَو سُطورًا، حدَّه الأَركيلة المعهودة، على قرقرتها تتدحرج الكلمات إِلى الصفحة البيضاء.
وما هي حتى سمعنا قُبالتَنا جرس “دير الحارة” يُعلن صلاة الغروب، فأَسمعتُ أُولئك الشباب كيف كان أَبو شبكة يسمع ذاك الصوت حتى كتَب فيه:
أُسجدي لله يا نفسي فقد وافى المغيبْ
إِسمعي الأَجراس في قبَّة دير الراهباتْ
رجَّع الوادي صداها للنفوس الزاهداتْ
فهْيَ أَصواتُ حنانٍ وبقايا زفراتْ
صعَّدتْها راهباتُ الدير قُدَّام الصليبْ
أُسجدي لله يا نفسي فقد وافى المغيبْ
وأَوجزتُ لهم ملامح من سيرة أَبو شبكة وقصَّتَه مع غلواء وليلى وتعلُّقَه بزوق مكايل التي كثيرًا ما كان يذكُرها في مقالاته.
جَذَبني إِرهافُهم مُصغين في تَقْوى السَماع، فتوسَّعتُ في سرد سيرةٍ ومسيرةٍ من سعيد عقل والأَخوين رحباني، تاليًا من شعرهم ما شدَّهم إِلى معرفتهم أَكثر، وهو ما سرَّني أَن يكتشفوا تراث لبنان الأَدبي الذي لم يَطَّلعوا عليه في دراساتهم الثانوية والجامعية.
غير أَن ما استطْلَعوه أَيضًا، كلامٌ كان سمعه أَحدُهم في ضهور الشوير إِبان الندوة التي جمعَتْني إِلى المنبر بالبروفسور أَنطوان مسرَّة والأُستاذ سهيل منيمنة حول حفْظ التراث ونقْله إِلى الجيل الجديد، وهُؤلاء الشبان منه في قلب النضارة.
ولأَنني مكرِّسٌ حياتي وأَدبي لخدمة تراث لبنان وحضارته وإِرثه التاريخي الخالد، رحتُ أَتبسَّط لهؤُلاء الشباب الرائعين عن أَهمية ما أَعطاهُ لبنان للحضارة، وما فيه من أَمجاد وتاريخ، وما ترك مبدعوه من آثار أَدبية وشعرية وموسيقية وتشكيلية رسمًا ونحتًا، حتى لهُم صُنَّاع النهضة اللبنانية وبُناةُ تاريخ لبنان المعاصر بأَمجاده وإِرثه الحضاري.
وشرحتُ لهم أَنَّ هذا هو الوطن الدائم الخالد الباقي، وأَن الدولةَ عابرةٌ بعُبور أَهل السلطة، فإِن كانوا صالحين أَصلحوا شؤُون الدولة، وإِن كانوا فاسدين أَفسدوا صورة الدولة. وفي كلتا الحالتَين (فسادُ الدولة بفساد أَهل السلطة أَو صلاح الدولة بصلاح أَهل السلطة) لا علاقة لهما بلبنان الوطن، السائرِ في الزمان بأَعلامه ومبدعيه. فهو الخالد لأَنهم خالدون. لذا دعوتُ هؤُلاء الشباب إِلى التعلُّق بلبنان الوطن وأَلَّا يُضيِّعوا وقتهم وعمرَهم في متابعة الدولة وأَهل سلطتها. واستشهدتُ لهم بجبران الذي حين قال: “لكم لبنانكم ولي لبناني” كان يستقِيل من لبنان الدولة لا من لبنان الوطن، بدليل أَنه هو القائل: “لو لم يكن لبنان وطني لاتخذْتُ لبنان وطني”.
سعيدًا جدًّا كنتُ في لقائي تلك الكوكبةَ من شباننا المثقَّفين الذين ارتَضَوا أَن يسمعوا من جيلي ما يَرْفُدُ جيلَهم بِحُب لبنان الوطن. لذا أُحبُّ دومًا أَن أَجتمع بهم وبأَمثالهم من المثقَّفين الجُدد. هكذا ننقل تراث لبنان إِلى مَن بعدنا، وهكذا ينمو الجيل الجديد على حُب لبنان، ويتعلَّق به وطنًا ذا إِرثٍ عظيمٍ حين يَعيه أَبناؤُه يَفهمون جليًّا كيف يَنتمون إِليه، وكيف يَستاهلون أَن يَستحقُّوا لبنان.

زر الذهاب إلى الأعلى