بأقلامنا

انفجار المرفأ قبل 88 سنة إِهمال الدولة الـمُتناسل جيلًا بعد جيل بقلم الشاعر هنري زغيب

انفجار المرفأ
قبل 88 سنة
إِهمال الدولة الـمُتناسل
جيلًا بعد جيل

يُطلُّ الرابع من آب هذا العام حاملًا للبنان دمعةً وابتسامةً: الابتسامة لكونه مدخلَ السنة 90 من عُمر “النهار” (أَسَّسها جبران تويني وأَصدر عدَدها الأَول نهار الجمعة 4 آب 1933)، والدمعة لكونه الذكرى الثانية لوقوع فاجعة انفجار مرفأ بيروت.
وإِذا “النهار” تحتفل بعيدها على طريقتها الرائدة، فبيروت أَيضًا تستذكر كارثة 4 آب على طريقتها. لكنها – وهي و”النهار” توأَما روح وجسد – تتذكَّر نكبة المرفأ باستذكار سابقة لها وقعَت قبل 88 سنة في مرفأ بيروت.
ولأَن “النهار” ذاكرةُ بيروت ولبنان، وسبّاقةٌ في حفظ الذاكرة، هي ذي حادثة تنشرها “النهار” للمرة الأُولى رديفةَ هذه الذكرى الوجيعة.
في ذاكرة الصحافة
بين المحفوظات النادرة في “مركز التراث اللبناني” (الجامعة اللبنانية الأَميركية LAU) عثرتُ قبل أَيام على عدد من جريدة “صوت الأَحرار” يسرد حادثة “انفجار فظيع” (حسب تعبيرها) وقع في مرفأ بيروت صباح السبت 1 كانون الأَول 1934.
عن كتاب “الصحافة اللبنانية بين 1851 و1943” للزميل جوزف أَبي ضاهر (384 صفحة حجمًا كبيرًا – منشورات جامعة سيدة اللويزة – طبعة أُولى 2017) أَن جريدة “صوت الأَحرار” اليومية “أَكملت مسيرة جريدة “الأَحرار” التي أَسَّسها في 6 كانون الثاني 1924 كلٌّ من جبران تويني وسعيد صباغة وخليل كسيب، وكان جبران تويني رئيس تحريرها ومديرها المسؤُول حتى 1933″. وحين انسحب منها جبران تويني ليؤَسس جريدته “النهار” في 4 آب 1933، توقَّفَت “الأَحرار” وأَصدَر مكانها صباغة وكسَيْب جريدة “صوت الأَحرار” في 31 آب 1933، ليكون خليل كسَيْب مديرها المسؤُول.
حادثة المرفأ
أَمامي الآن مجلَّد سنة 1934 من “صوت الأَحرار” (أَي “السنة الثانية” من عمرها)، وتحديدًا العدد 372 – الأَحد 2 كانون الأَول والإِثنين 3 كانون الأَول 1934. وعند جبين الصفحة الأُولى على خمسة أَعمدة (كانت الصحف فترتئذٍ تَصدر بستة أَعمدة) مانشيت من سطرَين، الأَول: “كارثة جديدة تُنْكَب بها مدينة بيروت” وتحته “انفجار فظيع في جمرك المستودعات يسبِّب حريقًا هائلًا فَيَلْتَهِم 23 شخصًا ويذَر المستودع رمادًا وأَنقاضًا”.
وتحت المانشيت 4 صُوَر للكارثة، هي ذي كلماتها:
1. “منظر أَليم لجثَّة تركَـتْها أَلسِنة اللهيب فحمةً سوداء، ويُرى الدكتور حلو يُسدِل عليها غطاءً أَبيض”.
2. “رجال مصلحة الإِطفاء والكشَّافون يَعمَلون على إِطفاء الحريق وإِنقاذ الضحايا”.
3. “الكونت دو مارتيل مع فريق من كبار الموظَّفين الذين أَقبَلوا على محل الفاجعة”.
4. منظر آخر لأَحد الضحايا محمَّلًا بغطاء أَبيض، استعدادًا لنقله إِلى عربة الصحة”.
بين الصُوَر الأَربع سطر عمودي لعبارة “هذه الرُسوم لمصوِّر صوت الأَحرار الخاص”.
وعلى كامل الصفحة 2 وهي “حوادث وأَخبار محلية” وصفٌ مفصَّل للحادثة، تحت عنوان من سَطرين على عمودين، الأَول: “كارثة الحريق المروِّعة في جمرك بيروت” والآخر تحته: “13 قتيلًا و10 جرحى أَكثرهم في خطر”.
الخبر المفصَّل
جاء في مطلع الخبر:
“… كأَنه كُتب لهذه البلاد أَن تُصاب بين فترة وأُخرى بفاجعة أَليمة يذهب ضحيتها عدد من أَبنائها، تارة تحت الأَنقاض وطورًا ضمن الآبار. بالأَمس أُصيبت المدينة بكارثة كوكب الشرق ففقدَت أَربعين رجُلًا عدا الذين عطَّلَتْهم الأَنقاض عن أَعمالهم وَتَرَكَتْهُم مشوَّهين. ثم وقعَت فاجعة عاريَّا فقضَت على حياة ثمانية شبان دَفَعَتْهُم حميَّتُهم إِلى تلك البئر فانتُشِلوا منها جُثَثًا هامدة.
والكارثة التي نزلَت صباح أَمس بمدينة بيروت لا تقلُّ عن الفاجعتَين الأُولَيَيْن هولًا ورزءًا. فإِن عدد الضحايا بلغ 23 نفْسًا وجميعُهم قضَوا شهداء الإهمال، وكثيرًا ما جرَّ الإِهمال الويلات على البلاد فضلًا عن أَبنائها.
أَلا يرى المسؤُولون، إِزاء تعدُّد هذه الكوارث، أَنْ يسنُّوا تشريعًا تُصان معه حقوقُ العائلات في مثل هذه الحالة، وهي التي تَفقد مُعيلَها وأَعزَّ شيْء تملكُه في هذه الحياة الدنيا؟
إِن المحافظة على أَرواح العباد، وبالتالي على حقوق الأَفراد عند وقوع الحوادث، هي أَول الواجبات المفروضة على السلطات. فواجب هذه السلطات ليس بالحضُور إِلى محل الكارثة بعد وقوعها، و”القبض” على جثث الضحايا والسماح بدفنها، وإِنما هو في اتخاذ التدابير التي من شأْنها صيانة الناس من إِهمال يكلِّف العائلات أَحيانًا ثمنًا غاليًا جدًّا (…).
الفاجعة ذاك الصباح
بعد هذه المقدمة، جاء: “… ونحن نترك الآن لمندوبنا رواية تفاصيل هذه الفاجعة المؤْلمة:
في الجهة الشرقية من رأْس المرفأ، على مسافة عشرة أَمتار من مطار شركة الطيران الإِفرنسية، تقوم بنايةٌ كبيرة لشركة المرفأ، مُعَدَّة بمثابة مستودع للمواد المشتعلة التي تَرِد إلى بيروت. ويضمُّ هذا المستودع المواد المشتعلة كخوابي الأَسيد البلورية والكبريت والزيوت والسُمُون وسائر المواد الشحمية ومشتقاتها والجلود ومختلف أَنواع الأَصبغة والحبر والعقاقير الطبية والبارود وسائر أَنواع المفرقعات (…).
وأَمس جاء العمَّال كعادتهم إِلى هذا المستودع، وعددُهم 23 عاملًا عدا موظَّفي إِدارة الجمارك والمرفأ، وعددهم 12 موظَّفًا، وتولَّى كلٌّ منهم عمله. وقد بدأَ العمل في الساعة السابعة والنصف كالعادة، بحيث جلس كلُّ موظف في مركزه، وشرع العمل بتفريغ محمول الباخرة إِلى البر ونقْله بعد ذلك إِلى داخل هذا المستودع.
وفي الساعة الثامنة والدقيقة العاشرة، في حين كان الناس منهمكين في أَعمالهم، ومستودعاتُ رأْس المرفأ مزدحمةٌ بمئات العمَّال والموظفين والتجَّار والأَهلين، وكلٌّ منصرف إِلى عمله، سُمِع دويُّ انفجار هائل تَلَتْهُ عدة انفجارات متوالية لم تستمرّ غير ثوانٍ معدودة عَقِبَها انهيار شديد انتهى بدخان كثيف طبَّق الجوّ، تخلَّلَه صراخ أَليم موجع تجاوبت تلك الجهات صداه المشؤُوم.
الانفجار الرهيب
وما هي إِلَّا لحظات حتى شبَّت النار في مستودع المواد الملتهبة، فَرَوَّعَ هذا النبأُ دوائر الجمارك والمرفأ والتجار، لأَن في شبوب النار في هذا المستودع خطرًا شديدًا يهدِّد سلامة عشرات المستودعات الخصوصية والعمومية المنتشرة على ذاك الرصيف. وكان أَشدّ هذه الدوائر ارتياعًا دائرة شركة الطبران الإِفرنسية المجاورة لذلك المكان، فما لبث مَن فيها أَن تمالكوا جأْشهم وأَسرعوا بإِخراج الطائرات إِلى البحر، ثم أَبعدوا كميات البنزين التي هناك، وقد ساعد هذا التدبير على عدم اتصال النيران بهذا المطار ومنع ازدواج الفاجعة.
وقد دلَّت المعلومات الدقيقة، التي تمكَّن مندوبنا من الحصول عليها، على أَن الحريق بدأَ بانفجار إِحدى زجاحات الأسيد الكبيرة، وما لَبِثَ تراكُمُ هذه الزجاجات في تلك الجهة أَن وَلَّد حرارةً شديدةً، فانفجَرت الزجاجات، وعَقِبَ انفجارَها انفجاراتٌ عديدة انطلقَت في المستودعات الزجاجية المجاورة، فَنَسَفَت الجدار الشرقي القائم أَمام مدخل المستودع الـمُعَدّ للواردات، وانهار السقف مطْبِقًا على الناس والبضائع، وانتشرَت رُشَاشاتُ الأَسيد المحترقة فأَشعلَت المستودع من جميع جهاته (…)”.
الدولة المتناسلة إِهمالًا
تلك مقاطع مما في تلك الصفحة الثانية من “صوت الأَحرار”، لكنها شهادةٌ على الفساد المنكوب به لبنان بدولته الكرتونية من زمان.
88 سنة، ولم يتغيَّر شيء في هذه الدولة التاعسة، قبل الانتداب وفيه وبعده: فواجع يسقط المواطنون ضحاياها، فيما يبقى أَركانها في الحكْم مطمئنِّين إِلى أَنهم يَسُوسُون شعبًا لا ينتفض ولا يثور، مرتاحين إِلى سلوكهم الإِقطاعي سياسيًّا، الإِقطاعي قبائليًّا، الإِقطاعي مزرعجيًّا، وبذلك يهنأُون، بهم وبنَسْلهم، إِلى سيطرتهم على الدولة أَبًا عن جدٍّ تواصُلًا إِلى الابن فالحفيد.
غير أَن 4 آب 2020 لن يكون فاجعةً تطويها الأَيام. وستبقى الذاكرةُ حيَّةً، وستبقى “النهار” واحةَ الحرية الساطعة على خصر هذا المتوسط الفيروزي المدى.

ــــــــــــــ

انفجار المرفأ سنة 1934
مقالي في “النهار” عن
الانفجار قبل 88 سنة :

زر الذهاب إلى الأعلى