ثقافة ومجتمع

مُكتشِف جبران يَتذكَّرُه (3 من 4) بقلم الشاعر هنري زغيب

 

في الجزء الثاني من هذه الرُباعية سردتُ كيف وصَف الصحافي اللبناني أَمين الغريّب لقاءَه الأَول بجبران، وكيف بدأَ يَنشُر في جريدته “الـمُهاجر” (نيويورك) طلائعَ مقالات جبران، وشجَّعَه بتقديمه إِلى قرَّاء المجلة كاتبًا شابًّا موهوبًا يتوقَّع له مستقبلًا عظيمًا في دنيا الأَدب.

في هذا الجزء الثالث أَنقُل بعضَ رسائلَ من جبران إِلى الغريّب.

 

“يوم مولدي” في “الـمُهاجر”

“في 29 كانون الثاني/يناير 1883 وُلد جبران في بشرّي (هنا أَخطأَ الغريّب في التاريخ لأَن مولد جبران عامئذٍ كان يوم 6 كانون الثاني/يناير وليس 29). فاسمع الآن ما يقول في ذلك بعد 26 عامًا، بمقال “يوم مولدي”، أَرسله من پاريس إِلى “الـمُهاجر”، وما كان ينشر شيئًا على الإِطلاق في غير “الـمُهاجر”…”.

(هنا يورد الغريّب نص المقال كاملًا على 6 صفحات في العدد، من الصفحة 694 ومطلعُه: “في مثل هذا اليوم ولدَتْني أُمِّي. في مثل هذا اليوم منذ 26 سنة وضعَتْني السكينة بين أَيدي هذا الوجود المملوء بالصراخ والنزاع والعراك. ها قد سرتُ ستًّا وعشرين مرّة حول الشمس، ولا أَدري كم سار القمر حولي، لكنني ما أَدركتُ بعدُ أَسرارَ النور ولا عرفْتُ خلايا الظلام…”، إِلى الصفحة 699 وخاتمتُه: “…سلامٌ أَيها الروحُ الضابطُ أَعِنَّةَ الحياة، المحجوبُ عنا بنقاب الموت، وسلامٌ لكَ أَيها القلب لأَنكَ لا تستطيع أَن تهزأَ بالسلام وأَنت مغمورٌ بالدموع. وسلامٌ لكِ أَيتها الشفاه لأَنك تتلفَّظين بالسلام وأَنتِ تَذوقين طعم المرارة”. ولن أَنقله هنا كاملًا لأَنه موجود في كتاب جبران “دمعة وابتسامة – المقال السادس والأَربعون).

ويختم الغريّب بتأْريخ جبران المقالَ هكذا: “باريس في 29 كانون الثاني/يناير 1909”. ونشَرَه الغريّب على جبين الصفحة الأُولى من “الـمُهاجر” – العدد 467 – السنة السادسة – السبت 13 شباط/فبراير 1909، وكان الغريّب يُصدر الجريدة يومَين فقط في الأُسبوع: الأَربعاء والسبت. واللافت أَن جبران صدَّر مقاله، فوق اسمه، بإِهداء المقال إِلى ماري هاسكل. ولأَنها لا تعرف فكَّ الأَحرف العربية، كتبَه لها بالأَحرف اللاتينية: To M.E.H.

 

مطالع الـمُراسلة

بعد نشْر النص (“يوم مولدي”) كاملًا، يكمل الغريّب:

“… فالقارئ يستدلُّ، من كتابات هذا الشاب النابغة، على أَميال نفسه الكئيبة، وعلى اطّلاعه الواسع وعلْمه المحيط بمكنونات متنوعة عديدة. وبعدَما أَوردتُ من كلامه العامِّ للناس، لا بأْس في إِيراد بعضٍ من كتاباته الخاصة التي كان يُتحفني بها حينًا بعد آخر.

عند عزمي في مطلع سنة 1908 على مغادرة نيويورك إِلى لبنان تناولتُ منه جوابًا طويلًا في 12 شباط/فبراير من ذلك العام قال في ختامه: “لا يمكننا أَن نلتقي ونهزَّ الأَكُف. ولكنْ سوف نلتقي بالروح والفكْر كلّ يوم بل في كلّ ساعة. إِن نواميس الزمان والمكان والمسافة لا تؤثّر في الأَرواح. خمسة آلاف ميل مثل ميل واحد. وأَلف سنة عند الروح مثل دقيقة واحدة. فالله يُريني وجهَكَ بخير يا أَمين. ولتباركْكَ السماء بقدر محبة أَخيكَ – جبران” (“الحارس” ص 699).

ويوم سفَر الباخرة بي من نيويورك في 18 شباط/فبراير 1908، كتَب إِليَّ من بوسطن يُظهر حنينه إِلى لبنان ويقول: “يا أَخي أَمين، هذه آخر كلمة أَقولها وأَنتَ في هذه البلاد. كلمة صغيرة صادرة من قدس أَقداس القلب، مع تنهيدة شوق وابتسامة أَمل. كُن معافى في كل ساعة من كل يوم من كل شهر. تمتَّعْ بالأَشياء الجميلة أَينما رأَيتَها، وأَبْقِ خيالاتها وصداها في قلبكَ إِلى حين رجوعك إِلى مُحبِّيكَ ومُريديكَ. قابِلْ عشَّاق “الـمُهاجر” في مصر ولبنان وسوريا، واتْلُ على مسامعهم حديث إِخوانهم الـمُهاجرين، وانشُر أَمامهم ما طوَّقَت المسافةُ الشاسعة الفاصلة بين قلوبنا وقلوبهم، ومكِّن تلك العُرى التي تُوثِّق قلوبَ قلوبنا بقُلوب قلوبهم. قفْ على إِحدى قمم لبنان صباحًا، وتأَمَّلْ في طلوع الشمس وانسكاب شعاعها الذهبي على القرى والأَودية، وأَبْقِ هذه الصورة السماوية على لوح صدركَ لكي نراها عندما تعود إِلينا. تلطَّفْ وأَجْرِ ذكْر الحنين الذي في أَرواحنا وتمنيات قلوبنا أَمام الناشئة اللبنانية. أَخْبِر رجال لبنان وسوريا العتيدتَين بأَن جميع أَفكارنا وعواطفنا وأَحلامنا لا تَخرُج وتتطاير من رؤُوسنا وصدورنا إِلَّا لتَسبَحَ طائرةً نحوهم. عندما تبلغ بكَ الباخرة بيروت، قِفْ على مقدَّمها وانظُر نحو صنين وفم الميزاب، وَحَيِّ عنا الجدودَ النائمين تحت أَطباق الثرى، والآباءَ والإِخوان العائشين فوقه. أُذكُر جِدَّنا واجتهادَنا في الاجتماعات العامة والخاصة. قُلْ: هُم قوم يشتغلون بزرع البذور في أَميركا لكي يستغلُّوها يومًا في لبنان وسوريا. أُذكُر اسمي أَمام مُحبّي “الـمُهاجر” في مصر ولبنان وسوريا، لعلَّ اسمي يصير ذا نغمةٍ لطيفةٍ إِذ يجتاز مسامعهم” –  جبران”.

 

لبنان الهدوء الجميل وبوسطن الضجيج

ويكمل الغريّب:

“… ولـمَّا بلغتُ لبنان، جاءَتْني منه الرسالة التالية عن بوسطن في 28 آذار/مارس 1908 أَختار منها بعض فقراتها التي أَشعر بأَنَّ فيها ما يستوجب نشْرَها وتعميمَ تعابيرها الجميلة (“الحارس” – ص 700):

 “يا أَخي يا أَمين: ها قد أَوصدتُ غرفتي، وجلستُ في ظلال سحابة من دخان السكاير الممزوج بعطر القهوة الحجازية، لكي أَصرف ساعةً بمحادثتكَ. فما أَلذَّ السكاير، وما أَلذَّ القهوة الحجازية، وما أَلذَّ محادثتكَ. أَنتَ الآن في الجانب الآخر من هذه الكرة الكبيرة الصغيرة، وأَنا ما برحْتُ ههنا. أَنتَ في لبنان الجميل الهادئ، وأَنا في بوسطن المفعَمة بالحركة والضجيج. أَنتَ في الشرق وأَنا في الغرب. ولكنْ ما أَقربكَ بعيدًا يا أَخي. إِن البشر يَكرهون بُعاد الأَحباب والأَصحاب لأَن سرورهم يأْتيهم عن طريق الحواسّ الخمس. أَما الذي نَـمَتْ روحُه فيشعر بالملذَّات المترفِّعة عن استخدام هذه الحواسّ. هو يذهب إِلى أَقاصي الأَرض ثم يعود، ولكنْ بغير الأَقدام والمَرْكَبات والسفن…”.

المقال الرابع (الأَخير): تتمَّةُ الرسالة ونهايةُ مقال الغريّب في مجلته.

زر الذهاب إلى الأعلى