بأقلامنا

“هلَّق مش وقتها”؟ بل هلَّق وقتها بقلم الشاعر هنري زغيب

“أَزرار” الحلقة 1193
“النهار” السبت 4 آب 2021

“… على أَيِّ حال، أَرى أَنكَ انفصلتَ عن واقع لبنان اليوم ووضْع اللبنانيين المقهورين في حياتهم اليومية”.
بذا ختَمَ صديقي من وراء البحار تعليقَه على مقالي في “نهار” السبت الماضي (“أَزرار” 1192: “عاجل إِلى رفاق القَلَم”) معتبرًا أَني، في دعوتي رفاقَ القلَم أَن يكتبوا عن تراثنا وأَعلامنا، “انفصلتُ” عن واقع البلد وعمَّا يكابده المواطنون.
كأَني بصديقي، وهو “يُنَظِّرُ” من وراء البحار، يظنُّني أَكتب من منتجع سياحي في مونتي كارلو أَو ماربِيَا. ليس يدري أَنني أَنام لياليَ حارقةً بدون كهرباء، وأَكتب مقالاتي على ثلاث دفعات متقطِّعة أَو أَربع، “أُهَرِّبُها” على عجَل بين انقطاع المولِّد وعَودته لحفنة بخيلة من الدقائق الرجراجة، وأَقف في صفٍّ جُلجُليٍّ عند محطات البنزين، وتلْسَعني أَسعار غذائي ومائي ودوائي، …
ومع ذلك…
مع كلِّ ذلك أُشيح عن اليوميَّات الآنيّة وأَدعو بثباتٍ رفاقَ القلم أُدباء وكتَّابًا وصحافيين ثقافيين أَلَّا يستقيلوا من دورهم في كشْف كنوز تراثنا وأَعلامه – وما أَكثرهم وما أَعظَمَ نتاجهم -، وأَلَّا ينتظروا انحسارَ هذه الأَزمة الشيطانية، فهي طويلة، وانهيارَ أَبالستها، وهم دينوصوريُّون، بل أَن يبادروا إِلى إِطْلاع جيلنا الجديد على ثروات لبنان الفكْرية والأَدبية والعلْمية كي لا يكبَرَ هذا الجيلُ الطريُّ على صورة مُسُوخ السياسة ظنًّا أَنَّ هذا هو لبنان فيُؤْثرون هجْرته هرَبًا من الـمُسوخ.
أَدعو رفاق القلم لا إِلى الكتابة السياسية العابرة المتغيِّرة – الزائلة مهما طالت وتَسَلْحَفَت – فالكتابةُ فيها شغْلٌ في الطين يَتَفَتَّت بِتَفَتُّتِ السياسيين الْيَكتبون عنهم، بل فلْيَنصرفْ رفاقُ القلم إِلى الكتابة الثقافية، وهي شغْلٌ في المرمر الدائم لأَن المبدعين خالدون لا ينقضي زمانهم.
ولا إِلى جيلنا أَدعوهم يكتبون بل إِلى جيل أَولادِنا فأَولادِهم ليَعُوا أَنهم في وطن خالد عريق لا تستحقُّه دولتُه المارقة من فساد وسلطتُه الغارقة في الطائفية والمذهبية والمحاصصاتية. أَدعوهم يكتبون لتلامذة المدارس وطلَّاب الجامعات كي يَعُوا أَنهم أَبناء وطن غنيٍّ بتاريخه الإِبداعي وتراثه المتعدِّد الساطع. ماذا يعرف اللبنانيون الجدُد عن تراثنا، وهُم محاطون ببيئة مسيَّسة قلقة لا يجدون فيها إِلَّا النَقَّ والتشاؤُم واليأْس وذرَّ الإِحباط في النفوس والقلوب، ويرتطمون يوميًّا بأَنباء سياسيين قبيحي الوجوه والأُلسن والنيَّات يطالعونهم يوميًا بتخاصماتهم وتشاتماتهم وتناقماتهم، وجميعهم غارقون في الفساد والكذب والثعلبة والأَنانيات القاتلة وشعارات تدميرية كذَّابة؟
اللبنانيون الجدُد، وفيهم موهوبون أَفذاذ وأَذكياء خلَّاقون، ماذا يعرفون عن أُدباء لبنان ورسَّامي لبنان وموسيقيِّي لبنان وشعراء لبنان ومسرحيِّي لبنان ونحَّاتي لبنان وعلماء لبنان ومفكِّري لبنان ومتاحف لبنان وآثار لبنان وجمالات لبنان الطبيعية والسياحية والجمالية والبيئية وثروات لبنان المائية والبحرية والبرية؟
كيف نريدهم يحبُّون لبنان إِن لم يعرفوا كنوزَه وثرواتِه، وهُم يدرُسون ما في أَوطان العالم من كنوز ثقافية وإِبداعية تحفظها دُوَلُها وتحافظ عليها بأَعلى التقنيات كي تنتقل ثرواتُها الفكرية من جيل إِلى جيل؟
إِلى هذه الثروات اللبنانية أَدعو رفاق القلم أَن يتوجَّهُوا بنصوصهم ويخاطبوا بها أَبناءَنا فأَبناءَهم. الوطن الخالد يقاس بمبدعيه لا بسياسيي دولته ولا بثعالب سلطته. لم يخلُد وطن في التاريخ إِلَّا بتراث المبدعين بُنَاة نهضتِه صُنَّاعِ حضارته.
“مش وقتها هلق”؟ كرَّرَها في تعليقه صديقي من وراء البحار؟
بلى يا أَنت: “هلَّق وقتها” وكلَّ وقت. الغيومُ القذرة تحجُب نور الشمس ولا تُلغيه. وشمسُ لبنان الوطن الخالد أَسطعُ من أَن تلغيها، في دولته الـهَشَّة وسُلطته القَشَّة، حقارةُ السياسيين.

 

زر الذهاب إلى الأعلى