بأقلامنا

أنا ضعيفُكِ يا بيروت بقلم عقل العويط

أنا ضعيفُكِ، يا بيروت.
كلّما ارفَضَّ عنكِ أترابُكِ وحلفاؤكِ وأبناؤكِ وأحفادكِ وسعاةُ خيركِ، وجدتُ جنودًا ورسلًا مجهولين يشهدون لكِ، وينتمون إليكِ.
كلّما اشتدّ حنقُ الشمس عليكِ، وتَغَيَّبَ قمرُكِ عن منادمتكِ متذرّعًا بهواجسه وأوجاعه، ازدادت حججي يقينًا بأنّ شمسكِ وقمركِ (و”سماءكِ”) خسيسان يُباعان ويُشتَريان، ويلتحقان بجملة الذين يُباعون ويُشتَرَون، ليرذلوكِ، ويتنكّروا لكِ، ويتخلّوا عنكِ في وقت الشدّة والضيق.
كلّما ارتدى مسيحُكِ الكذّاب وجهَ المسيح، وكلّما تقمّصَ أقواله، وشوّه أفعاله، عرفتُ أنّكِ نقيض مسيحكِ المنتن الدجّال، وأنّكِ منه براء، وبرءًا منه ستبرئين، وستتبرّئين.
كلّما رزحتِ تحت الترّهات، تحت الأشلاء، تحت التخرّصات، تحت أيدي الأمم والصفقات والمصالح والتوازنات، تحت أوساخ ساداتكِ ورؤسائكِ وحكّامكِ وأمرائكِ وسرّاقكِ، تحت صلف العمالات والخيانات والعسس والأسلحة وجمهوريّات الملالي وشرّاح الكتب والفقهاء، وتحت هول “الأنبياء” الكَذَبَة، أدركتُ أنّ حرّيّتكِ هي المدرسة، وأنّ كتابكِ العلمانيّ هو وحده “الدين”، وهو الخلاص، وهو الفجر البعيد، ولا بدّ أنْ يكون هو هو الحقّ السديد.
أنا ضعيفُكِ، يا بيروت.
لكنْ، هل يجب أنْ أحاسبكِ، وأنْ ألومكِ، لأنكِ ابنة أصلٍ، وكريمة المحتد، وعالية، ومشرفة، ونبيلة، وضنينة بالثقافة، بالحرّيّة، وبالكرامة؟!
أيحقّ لي – أو لأحد – أنْ يحاسب، وأنْ يلوم؟!
وإنّي أسأل فقط، كيف لم تفكّري يومًا بانقلاب مينائكِ عليكِ.
وكيف فتحتِ ذراعيكِ ليتربّصوا بكِ بين العنابر.
وكيف أُخِذتِ على حين غرّة، وأنتِ لا تنامين.
وكيف تمنحين كلّ هؤلاء المرتزقة الأشرار نسيمَكِ ليشهقوا، ويتنشّقوا النسيم، ويتنفّسوا، وليزفروا سمّهم الزعاف في رئتيكِ وفمكِ، ويُخثّروا الدم، ويسدّوا الشرايين في القلب الأمين.
أنا ضعيفُكِ، يا بيروت.
الحطبُ الذي يحترق مخضرًّا وبطيئًا تحت جسدكِ الليّن، يجعلني، بثيابي وعينيَّ، أنضمّ إليكِ، وأنحني عليكِ، كما تنضمّ أمٌّ بثيابها وعينيها، وتنحني.
لن أكفر بكِ مهما انقلب عليَّ الدهرُ، الذي هو نزرٌ يسيرٌ من انقلابه عليكِ.
قيل لي إنّ الكلمات تُخزّن مياهها في شرايين حروفها، وفي مسامّ الحروف، وفي الطيّات. لن أبخل عليكِ بماء الكلمات، وإنْ كان متغلغلًا في نخاع الكلمات.
قيل لي في القرية إنّ تراب أهلي وأجدادي رطبٌ بسبب الدموع التي جُمِعتْ فيه. لن أتوانى عن غسلكِ بالدموع التي أهيلت على تراب أهلي وأجدادي، لئلّا تعطشي هذا الصيف، وفي كلّ حريقٍ وصيف.
أنا ضعيفُكِ، يا بيروت.
أكاد أفقد الأسباب التي تجعلني عقلًا سويًّا.
أكاد لا أعرف أنْ أُداري نفسي بحنكة نفسي، لأنّي لا أجد معنى لحياتي خارج حياتكِ.
أكاد لا أعثر على نقطة ضوء، على شهقة عصفور، على يقظة ضمير، فوق بحركِ المتفحّم.
أكاد لا أُعطى مخدّةً تضعين فوقها رأسكِ المهموم.
أكاد لا أرى نجمةً، ولا بصيصًا لجمرةٍ عتيقة في سمائكِ الجاحدة.
أكاد أقول: موتًا ستموتين، لأنّكِ تستحقّين موتكِ، عندما لا تعرفين أنْ تضعي حدًّا لموتكِ.
أكرّر: أنا ضعيفُكِ، يا بيروت.
كلّما ضاقتْ بكِ السبلُ، تَشَلَّعَ غصنٌ من شجرة عمري.
وإنّي أقول: ستضيق بكِ سُبُلٌ بعد سُبُلٍ بعد سُبُل، وقد لا تبقى سُبُلٌ لتضيق.
لكنّي لن أسمح لضعفي بأنْ يكون سببًا من أسباب الاستيلاء عليكِ.
وليس لأحدٍ أنْ يسمح لضعفه بأنْ يكون سببًا من أسباب الاستيلاء عليكِ.
ويجب – أكرّر: يجب – ألّا يُسمَح لأحدٍ بأنْ يستولي عليكِ، ولا طبعًا بأنْ يستولي على لبنانكِ.
Akl.awit@annahar.com.lb
كلام الصورة:
بيروت في لوحات لنعيم ضومط.

زر الذهاب إلى الأعلى