شخصيات

فصُولٌ في الوطن (2من3) عُمَر فاخوري بقلم الشاعر هنري زغيب

“أَزرار” – الحلقة 1181
“النهار” السبت 12 حزيران 2021

بعد محاضرة كمال جنبلاط سنة 1946 على منبر “الندوة اللبنانية” (“نهار” السبت الماضي) أَفتح اليوم كتاب “الحقيقة اللبنانية” (1945) لعُمَر فاخوري (1895-1946) فأَرى كيف المناخُ الفكري الأَدبي فَتْرتَئِذٍ كان واعيًا مفهومَ الوطن والتشبُّثَ بلبنان اللبناني المنفتح على العالم لا بإِعارة هويته بل تَـمَسُّكًا بها اعتزازًا حتى التقديس.
هوذا عُمَر يعلن أَن لبنان: “لا يُعيقه صغَر جغرافياه عن أَن يعطي العالم أَداةَ التخاطُب المثلى وأَساليبَ العبادة الفضلى وطرائقَ للفكر والعمل قويمة. بل لعل صغَره في رقعة الأَرض وفي زحمة التاريخ حافزٌ لشعبه إِلى الأَخذ بضروب العظَمة والسمُوّ والتوسُّع يكفي بها طُموح ذاته ويَسُد عَوَزَها”.
إِنه إِذًا يتخطَّى تفاصيل الدولة وهيكلها المتغيِّر وفْق الظروف والعهود لينصرف إِلى الأَهم: عظمة لبنان الوطن الذي “يتبسَّط سفُنًا ومُدُنًا، يتسامى آلهةً وهياكل، يتوسَّع بالحرف والفكْر، ومن غاباته المقدَّسة يَشيد معابدَه الذاهبة صعُدًا، ويَبني مراكبَه الذاهبة بعيدًا، كأَنَّ له من ضيق مساحته وصغَر حجمه على المسافة ثأْرًا، فلن يُقَرَّ له قرار حتى يُقرِّبَ الأَبعاد ويَجمعَ الأَضداد واصلًا قطيعةَ الروح والمادة على السواء”.
هذه هوية لبنان الـمُشِعّ على العالم هَديًا ومعرفةً بأَبناء له عباقرة جعلوه “مَلقى السُبُل المتفرِّقة، ومعتركَ الأُمم المتنافسة، ومزدحَمَ الثقافات المتقاطعة، لا قوَّة في الأَرض تستطيع أَن تُغلقَ ساحلَه الغربي مفتوحًا للأَبيض المتوسط مدنياتٍ وشعوبًا يعطيها ويأْخذ عنها، ولا قوَّةَ في الأَرض تستطيع أَن تَسلخَه عن هذا الشرق وَصَلَتْه به، منذ أَوَّل التاريخ، وشائجُ دَمٍ ولُغةٍ وتقاليدَ وأَساطيرَ وعباداتٍ وثقافات. سيظل لبنان همزةَ وصْل بين الشرق والغرب يلتقيان فيه. ثقافةُ لبنان هي المثلى، ورسالةُ لبنان هي الفُضلى: ثقافةُ تمازُجٍ ورسالةُ تَوَاصُل”.
هكذا اللبناني الخلَّاق الوفي يَشهَر إِيمانه بأَنه ابن وطن استثنائي لا يقاس بحدود جغرافياه ولا بضآلة ديموغرافياه، بل “أَكرَمُ ما يُصَدِّرُ لبنان: أَبناؤُه في النواحي الأَربع من الأَرض، بُناةُ المدُن والسفُن، المثقَّفون طبْعًا وتَطَبُّعًا، ناشرو الأَبجدية قديمًا حضَنَة العربية حديثًا، حَمَلَةُ رسالته الثقافية إِلى العالم”. ذلك أَن عُمَر فاخوري، المثقَّفَ الواعي حرَكَةَ التاريخ، مدركٌ عاملًا “خاصًّا بلبنان لا يُنازعه فيه منازع، هو الإِشعاع اللبناني، تلك المزيَّة التي عُرِفَ بها لبنان منذ أَقدم عهوده التاريخية ويَصعُب معها ادِّعاءُ أَنَّ لبنان منحصر في حدوده الجغرافيَّة”.
هذا الوعي على أَهميَّة لبنان الوطن/الرسالة أَهَمُّ من البحث في صغائر الأُمور بين تشكيل حكومة أَو ارتجال تكتُّلات نيابية أَو صياغة عهود رئاسية. هذا الوعيُ يُبرز لبنانَ الوطنَ الساطعَ “شبكةً مطروحةً على العالم تَنتظِم أَجزاءه” كما ذكَر عُمَر فاخوري ووعى أَن وطنه الخالدَ الضالعَ في الحضارة ليس لبنانًا واحدًا بل لبنانان: “الرابضُ بين تخومه، والموزَّعُ على الدنيا جاعلًا الحدَث عالميًا بأَنَّ لبنان مَدينٌ بالدرجة الأُولى لنفسه. وهذه هي الحقيقة اللبنانية: الروحُ التي خلَقَت اللبنانيين أُمَّةً، وبلادَهم وطنًا”.
نعم: لبنان مَدين لِذَاته لا يُنعَتُ إِلَّا بِذَاته، لا يُعرَف ولا يُعَرَّف إِلَّا بهويته اللبنانية.
يَسْلَم قلمُك النقيُّ يا عُمَر.
المتخبِّطون اليوم بين انهيار الدولة وسُقُوط السُلطة، الأُمِّيُّون الجَهَلَةُ الْيَطْعنون بصغائرهم مهابةَ الوطن اللبناني، فليقرأُوا عُمَر فاخوري وكلَّ مفكِّرٍ واعٍ أَنَّ لبنان الوطن هو الأَساسُ الذي من أَجله تقوم دولةٌ تَخدُمها سلطةٌ جديرة فعلًا به.
(المقال المقبل: أَرنُولْد تُوْيْنْبي).

زر الذهاب إلى الأعلى