شارك بمسابقة شهر رمضان المبارك للعام ــ 1445 هـ . ـــ 2024 م . وأربح جوائز مالية نقدية Info@halasour.com
تحقيقات

اللوحة ذاكرة المكان بين ڤـان غوخ وﭘـيكاسو (1) بقلم الشاعر هنري زغيب

منذ نقلتُ إِلى العربية سنة 1982 كتاب “الانطباعية” للناقد موريس سيرولَّا (منشورات عويدات، بيروت، 176 صفحة حجمًا صغيرًا، سلسلة “زدني علْمًا” رقم 31) وأَنا أُتابع هذا الفن العالي الذي أَطلق الفنانَ من قفص محترفه إِلى رحاب الطبيعة. ويشرح سيرولَّا (1914-1997، مؤرخ تشكيلي خبير ومدير متحف دولاكْروَى سنواتٍ طويلة) أَن الرسام الانطباعي “ما عاد يَنقل الأَشكال كما تكون بل كما هي تحت تأْثير حركة النُور المتغيِّرة المتحوِّلة، ولا وفْقَ القواعد الهندسية الأَكاديمية المأْلوفة بل يؤَلِّف اللوحة منذ مقدِّمتها حتى خط الأُفق البعيد وفْقَ تدرُّجاتٍ في اللون وإِشراقاتٍ تُحدِّد مناخ المشهد ومداه”.

  تسمية “الانطباعية” عائدةٌ إِلى الصحافي لويس لُوروَى إِذ كتب في 24 نيسان/أَﭘـريل 1874 لجريدة “الضوضاء” مقالًا بعنوان “معرض انطباعيين” (ﭘـاريس: 15 نيسان/أَﭘـريل إِلى 15 أَيار/مايو 1874) منتقدًا في تلك التسمية لوحة مونيه “انطباع عند شروق الشمس”، فسَرَت منذئذٍ تسمية “الانطباعيين” عن أُولئك الرسَّامين عهدئذٍ.

من هنا أَن اللوحة الانطباعية معنيَّةٌ بمنظر، بمشهد، بوجه، بِـمَعْلَم، بوُجوه، بأَشخاص، بشُروق الشمس أُو غُروبها، وما تقتنص من الطبيعة عينُ الرسام وهو إِلى مَلْوَنِه يضع لوحته، وفْق انسكاب النور لحظةَ يرسم اللوحة، حتى إِذا تغيَّرَ النورُ تغيَّرَ مزاج اللوحة. لذا يحفل تاريخ الفن الانطباعي بلوحاتِ فنانين رسَموا المشهد ذاته في لوحات عدّةٍ يبدو فيها واضحًا تزاوُج النور والظل بحسب اللحظات التي وضع خلالها الرسامُ لوحته.

في هذا السياق، بقيَت لنا اليوم مجموعة من اللوحات التي خلَّدت المكان فباتت ذاكرتَه، حتى إِذا زال المكان أَو تغيَّرت معالمه لاحقًا بما فيه ومن فيه، بقيَت اللوحة شاهدةً عليه.

من تلك اللوحات التي خلَّدت الأَمكنة والمعالم، أَقتطف هنا (في جزء أَوَّل) هذه الباقة مع صورة فوتوغرافية للمشهد الأَصلي كما هو حاليًا، وكيف ظهر المشهد في اللوحة الفنية. المشهد الأَصلي قد يكون اليوم تغيَّر عما كان عليه يومَ التقطتْه عينُ الرسام قبل عقود، لكنه باقٍ مخلَّدًا في لوحة الرسام، وتحتل مكانها المشرِّف في أَحد المتاحف العالمية.

  1. ڤـنسنت ڤـان غوخ (1853-1890): “مقهى الرصيف في صحو ليلة آرل” (1888). وكان الرسام عاش سنةً وبعض السنة في تلك المدينة الفرنسية الهادئة، ورسَم فيها لوحاتٍ كثيرة جدًّا. وفيها بدأَت تُصيبه نوبات عصبية أَدَّت إِلى بتْره بيده أُذنَه اليسرى (كما ورد في مقالي المفصَّل عن ڤـان غوخ في “النهار العربي”- 18 كانون الأَول/ديسمبر 2020). وفي تلك المدينة وضع نُسخًا عدَّةً (أَخيرتُها في 16 أَيلول/سـﭙـتمبر 1888) لهذا المقهى الذي بات بفضله مَعْلمًا شهيرًا يقصده الزوار والسيَّاح كي يشاهدوا المقهى اليوم ويقارنوه بلوحة ڤـان غوخ الذي خلَّده فيها.
  2. ﭘـول سيزان (1839-1906): “جبل سانت ڤـيكتوار” (1905)، وهي من أَشهر لوحاته. يذكر مؤَرخو الفن أَنه وضع منها (بين 1885 و1905) نحو 60 لوحة مختلفة اللحظات في أَوقات متعدِّدة من النهار، وأَحيانًا في دقائق متعدِّدة من الساعة الواحدة، بحسب النور والظل وحركة الشمس على الجبل قمةً وسفحًا. وبفضل لوحات سيزان أَصبح الزوار والسيَّاح يقصدون المنطقة، يجلسون في مطاعمها ومقاهيها، ويتأَملون هيبة هذا الجبل وكيف تتغير أَشعة الشمس على صخره الكلسيّ.
  3. أندرو وايث (1917-2009): “عالم كريستينا” (1948). من أَشهر اللوحات العالمية في القرن العشرين. وضعها الرسام الأَميركي حين كان يعيش في مدينة كوشِنْغ الهادئة (ولاية ماين)، ومن نافذة بيته الصيفي رأَى جارتَه الصبية آنَّا كريستينا أُولسُون المصابة بالشلل الكامل في رجْليها، تحاول الزحف بكامل جسدها نحو بيتها في أَعلى التلة. ومنذ تلك اللوحة أَصبح البيت مَعْلَمًا يقصده الزوار والسياَّح ليشاهدوا هذا البيت الذي بات على لائحة التراث الأميركي بعدما خلَّده وايث في لوحته التي هي اليوم من أَبرز كنوز متحف الفن الحديث في نيويورك.
  4. فنسنت ڤـان غوخ: “كنيسة أُوڤـير” (1890): وضعها الرسام إِبان إِقامته القصيرة في تلك المدينة (33 كلم شمالي غربي ﭘـاريس)، ورسم فيها نحو 70 لوحة (لوحة كل يوم) للكثير من معالمها. أَشهر تلك: لوحة الكنيسة، رسمها في الأَيام الأَخيرة من حياته، وبعدها بأُسبوعين أَطلق النار على صدره في 27 تموز/يوليو1890، ما أَدَّى إِلى وفاته بعد يومَين، ودفْنِه في ضريح قريب من هذه الكنيسة التي أَمست بعدذاك معْلَمًا يزوره السيَّاح وينتقلون منها خطواتٍ قليلةً ليزوروا ضريح الرسام.

5. كلُود مونيه (1840-1926): “انطباع عند شُروق الشمس” (1872). هذه هي اللوحة التي، من اسمها، راجَ اسم تيار الانطباعية وغيَّر جليًّا تاريخ الفن التشكيلي في فرنسا وسواها. في اللوحة مراكبُ هادئةٌ تدخل مرفأَ هاڤـر (شمال فرنسا) موَشًّى بالضباب الصباحي. وكان الرسام صحا ذات صباح باكر إِبَّان زيارته تلك المدينة مع زوجته وولده، ورسمها وهو إِلى نافذة الفندق قُبالة المرفإِ الذي بات رمز الثورة الصناعية في القرن التاسع عشر.

 

زر الذهاب إلى الأعلى