اصدارات

قراءة في رواية “وأخون نفسي”* للكاتبة الفلسطينية وداد طه بقلم د.محمد فقيه

وأنت تلامس العتبة الأولى من بناء “وأخون نفسي”، رواية  الكاتبة الفلسطينية وداد طه بعد روايتها الأولى “ليمونةان”، تبصر”واوا تجرّ وراءها شريطًا من خيانات مرة وخيبات متكررة، تمسك بفعل الخيانة منذ البدايات الأولى:  خيانات الذات والآخر، تهديها إلى “خياناتنا الحمقاء” و”عبثنا الطفوليّ”.
في هذه الرواية تشرّع الخيانة أبوابها أمام الجميع: السياسي والإعلامي والديني، ألرجل والمرأة، الشيخ والصحافي والطبيب والطالبة الجامعية، وكأنها تردد قول الشاعر العربي:
تركت بهجة الدنيا فكل جديدها خَلَقٌ
وخان الناس كلّهم فما أدري بمن أثق
ومع الكاتب الامريكي أرثر ميلر قوله: “إن الحرب التاريخية بين الرجل والمرأة لن تنتهي بانتصار أحدهما على الآخر لسبب بسيط هو: حدوث خيانات كثيرة بين المعسكرين”.
تطرح الكاتبة مشكلة موجودة وقائمة منذ زمن طويل، منذ البدايات الأولى، مشكلة انهيار القيم، تزداد حرارة مع تعقيدات الحياة المعاصرة وأعبائها، وتيسير سبل التواصل وانفتاحها بين الجنسين، وترصد تحولات العلاقة المتغيرة بين الرجل والمرأة في عالم  “الجحيم الملتهبة”،عالم متغيّر، قلق، منفتح، ومراوغ: “البشر يتغيّرون، فلمَ تتوقّع منها أن تبقى ملاكاً وسط هذا الجحيم الملتهب، لا مكان للملائكة على هذه الأرض يا صديقي”.
الثابت الوحيد في هذا العالم أن لا شيء ثابت، كلّ شيء يتغيّر، والتغيير يشمل كل شيء: الطبيعة والإنسان، وأن الإنسان في هذه المعمورة مثخن بالإثم، يضع فوق كتفيه أحمالًا من الذنوب والخطايا..

تضمّن الكاتبة روايتها عدداً من الحكايات وتعتمد في ترتيبها طريق التناوب، فتسرد لنا عدّة حكايات في رواية وتتوقف عن سرد الأولى لتروي جزءا من الثانية، وهكذا…
لا تقحم وداد طه نفسها في شخصياتها، تتوارى وراءها وتتيح لها حرية التعبير، ترسمها في عالم معقّد شديد التركيب، تتعدّد الشخصيات الروائية وتتعدد الأهواء والهواجس والطبائع البشرية، وهي تعكس ما في هذه الشخصيات من طبائع وتظهر ما فيها من عيوب وما تكنّه من عواطف وأحقاد، وما تختزنه من شرور، وما تكابده من آلام وأهوال، وما يكتنفها من حسد وحقد وتنافس.
تجهد الكاتبة في أن تفيد من علم النفس في تتبع أسباب الخيانات وتعليل الاشياء وربط بعضها ببعض، فلكل حدث ارتباط بعلة ما، أو بحركة ما، أوبدافع ما، وهي في روايتها تظهّر سعي الانسان إلى الخيانة، يبذل “مجهودا جبّارا لكي يعاني من الخيانة ويتمكّن في ذلك في آخر المطاف: “يخاطب الشيخ خليل غنوة قائلا:  انظري الى نفسك، تلومين زوجك… وأنت تغرقين في خيانتك”.
هي لا تبرىء أحدا: المرأة والرجل والمجتمع: تسأل: لماذا تخون المرأة؟ فتجيب: فتش عن الرجل، تقول: كانت هوّة تبعدها عن زوجها(ص59).
تنزع الاقنعة عن الوجوه، تعرّيها، تحاول أن تضع أسبابا مخففة “لارتكابات” المرأة، فتحمل المجتمع: زيفه وتعقيداته مسؤولية كبيرة “إنتفضت سهاد في وجه علا فجأة  وقالت بتحد أكبر: لأننا وجهكم الذي تخفونه وتخافونه، لعلّ كل واحد يريد أن ينغمس في لجّة اللذة، لكن قيود حياتكم، والخوف من الآخرين وقناعات السعادة التي تضعونها وربطات العنق والعمائم التي تلبسونها تمنعكم من أن تكونوا أنفسكم” ص(60 ) .
وهي في هذا الموقف تقترب من رأي الكاتب والمفكر الفرنسي فيكتور هيغو الذي قال:” لا تشتم ابدا امرأة سقطت..، من يدري تحت أي عبء وقعت هذه المسكينة”
تغور في نفسية المرأة، تكشف فتنة الكلمة وتأثيرها  تقول: “المرأة مخلوق لا يسمع ما لا يقوله الرجل”(ص60)، أو ” الاهتمام علامة الحب”(ص134) . وهي تخضع ذلك لتصوراتها الخاصة وفلسفتها في الحياة في كتابة أدبية مخضلة بالعطر والجمال والأناقة.
يهيمن السرد المزامن للحدث في الرواية فيتطابق كلام الراوي مع جريان الحدث في الحاضر حيث تتوزع الرواية على ثلاثة فصول تمثّل حقبا زمنية متسلسلة: قبل السجن، في السجن، وبعد السجن.
تجري أحداث الرواية في أماكن مغلقة وضيقة:الغرفة، المنزل، العيادة، المكتب، صالة العرض والسجن وهي أماكن تنضح بدلالات العزلة والملل، ترشح ضياعا وألما، ترسم عالما من خوف وقلق وتكشف حجم الضغوط النفسية التي تواجه انساننا المعاصر وترفع اللثام عن ضعف الانسجام بين الزوجين في الافكار والمشاعر وفتور العلاقات بينهما.تقول:”قرر السفر.لم يعد المكان يتسع لخوفه(ص16).
وتشارك الاشياء المكان موته: الشجرة الوحيدة في باحة السجن، الحائط الرمادي، كل ذلك يعبّر عن علاقات التوتّر والعداوات والظلمة والضياع..
وأنت تقرأ رواية وداد طه “وأخون نفسي”  تباغتك أسئلة كثيرة:
أي مصير ينتظر الانسان عندما يصبح  رقما في سجن، السجن الصغير و سجننا الكبير، سجن حياتنا المعاصرة المحاصرة بالندم والحسرات.
أي مصير ينتظر إنساننا وقد أصبح برغيّا صغيرا في عجلة الزمن التي لا تتوقف؟
أي  خيانة أعظم : خيانة الأمة والتنكر لماضيها وحاضرها وطعن مستقبلها أم خيانة الشريك الآخر؟ وهل الأخيرة مقدمة وتوطئة للأولى؟
وهل هناك أسوأ وأبشع من خيانة الوطن ؟
وأي سجن أضيق من سجن عالمنا العربي؟ هذا السجن الكبير الذي يضيق بالكلمة.

*وداد طه، “وأخون نفسي”، رواية، دار الفارابي، بيروت،ط1، 2016.

زر الذهاب إلى الأعلى