شخصيات

الذكرى السنوية العاشرة على رحيل الوالد مصطفى أحمد يونس

ربما لو وددت ان اكتب رسالة تعبّر عن مدى اشتياقي وحبي وافتقادي لك لكنت كتبتها منذ اليوم الأول على رحيلك لكنني كنت على يقين ان الكلام عنك يتجاوز الحب والأشواق، إذ لا يمكنني الحديث عنك كأبٍ دون التطرق إلى مفاصل حياتك التي ضجت بالمواقف والأحداث والتي أصبحت جزءًا من تاريخ مدينة صور الحديث، أما انتظاري كل هذه السنوات كي أكتب عنك فكان سببه هو أنني لم أشعر يوماً بأن ثمرة نضوجي قد أينعت وأن حبر قلمي قد أصبح قادراً على الإنسياب لوصفك لأنك كنت ثائراً مناضلاً قبل أن تصبح أباً.. فحبك للحياة والناس ودماثة أخلاقك وخفة ظلك والسلام الداخلي الذي كان يغمرك دائماً لم يكن حائلاً كي تكون ثورجياً من الطراز الأول، فحركة القوميين العرب في صور أبصرت النور معك أنت ورفاقك ورفيق دربك ابن مدينتك محمد الزيات فارتشفت رحيق الثورة في زهوة مراهقتك وتنشقت عبير النضال في ريعان شبابك فأكتاف الثوار كانت تتسابق لحملك من أجل رفع صوت الوحدة والتحرر، وحناجرهم الفتية كانت مطبوعة بعنفوان الثأر تردد هتافاتك ودعواتك ضد نظام شمعون و إسقاط حلف بغداد في العام ١٩٥٨، وأزقة المدينة لا زالت شاهدة على مكوثك ليالٍ طويلة تتنقل بين حاراتها متسللاً موزعاً منشورات الثورة محطماً جدران الصمت في ضمائر أبناء مدينتك أما عودتك إلى المنزل عند بزوغ الفجر لم تكن بالأمر البسيط بسبب محاصرة القوى الأمنية لمنزل عائلتك لأيام ينتظرون خلالها عودتك من أجل إلقاء القبض عليك، وكم من مرة خضعت للاعتقالات والتحقيقات بسبب اندفاعك الثوري ونضالك من أجل عودة فلسطين إلى حضن الأمة ومن أجل وحدة الأمة العربية.. كان فارس أفكارك وملهم نضالاتك هو الرئيس جمال عبد الناصر فلم تنتظر طويلاً من أجل ملاقاته واستبقت الفجر لتصل إلى مصر وتنضم إلى الحركة الطلابية العربية مترئساً ومنظّماً وممثلاً لبنان، ودرست في جامعات مصر العروبة وتظللت أفياء التحرر والاشتراكية ومحاربة الاستعمار وعدت إلى لبنان في العام ١٩٦٣ مجازاً في الحقوق، وانتقلت إلى مرحلة العمل وكنت في الدفعة الأولى التى ساهمت في تأسيس الضمان الإجتماعي في لبنان في العام ١٩٦٤ إلى جانب ابن مدينتك الوزير السابق رضا وحيد ولأن أفكارك اشتراكية تميل إلى الطبقات المسحوقة، رفضت السير في طريق التزلف والوصولية ومحاباة الإدارة بل انحزت إلى فئة المستخدمين وانتُخِبت رئيساً لنقابة مستخدمي الضمان الاجتماعي في لبنان وسعيت جاهداً لتحصيل حقوق العاملين في مواجهة شرسة مع الإدارة بالرغم من الإغراءات التي قُدّمت لك والمحاولات لتدجينك لكنك أبقيت على مواقفك المطلبية من أجل العمال والموظفين وقمت بتنظيم الإضرابات ضد الإدارة التي رضخت في النهاية لمطالبكم في النقابة، ولا شك لو أنك سرت في طريق الوصولية والتزلف للإدارة ضد زملائك الموظفين وإخوتك العمال لأصبحت مديراً عاماً منذ السبعينات وكيف لا وانت من القلة القليلة الحائزة على شهادة جامعية في زمنٍ كانت شهادة السرتيفكا(الخامس ابتدائي) تجيز لمن يحملها مزاولة مهنة التدريس.. واستمرّت مسيرتك النقابية لكنها لم تثنيك عن الاستمرار في مشاركاتك في المظاهرات العامة التي تطالب بحقوق العمال وتحسين الوضع المعيشي للمواطنين في شوارع بيروت وصيدا وصور وعلى رأس تلك المظاهرات كانت مظاهرة الصيادين في صيدا والتي استُشهد فيها المناضل معروف سعد والتي كادت ان تودي بحياتك عندما سقطت جريحاً بفعل إصابتك في صدرك برصاص كان يستهدف المتظاهرين وعلى رأسهم الشهيد معروف سعد وقد تم نقلك إلى مستشفى الجامعة الأميركية، أما مسيرتك الإدارية لم تختلف عن النقابية، فعند تسلمك منصب مدير مركز صور وبنت جبيل للضمان الاجتماعي في النصف الأول من الثمانينات لم تتصرف كوجيه وصاحب سلطة بل كنت حريصاً على تسهيل أمور المواطنين لأن صفة التواضع كانت ملازمة لشخصيتك، وقد نوهت بعض الصحف آنذاك بمركز صور وسعيه الدائم في دفع مستحقات المضمونين في خضم الحرب و في ظل تسكير المعابر والظروف الإستثنائية المحيطة آنذاك و التي كان يتخبط خلالها البلد برمته.
ما يعزيني يا أبي أننا عشنا سوية في السنوات العشر الأخيرة من حياتك كأصدقاء نتبادل الأفكار ونتحاور مسترجعين أحداث من التاريخ أستحضرها أنا مما قرأت وتقوم انت بتصويبها أحياناً بفعل معايشتك لها وحديثي معك لم ينتهِ الا بعد أن اطمأنيت على مسيرة حياتي وابديت إعجابك الدائم بخياراتي وسلوكياتي في الحياة وكان لك ذكريات جميلة مع أولادي منوهاً بحسن تربيتهم إلى أن أغمضت عينيك مبتسماً مطمئناً فخوراً أنك استطعت أن تنشئ عائلة متماسكة، متعلمة، ناجحة، محبة لكل الناس.. سلامي لك في عليائك ولجميع أحبابك هناك على أمل اللقاء إن شاء الله.

ولدك أحمد

 

زر الذهاب إلى الأعلى