بأقلامنا

قصتي مع رئيس مجلس الوزراء بقلم الناشط غازي بنجك

في بداية التسعينات وكنت وقتها أدير شركة تصدير تجارية في عاصمة أحدى دول اوروبا الشرقية ، قبل وخلال التغييرات التي عصفت بالأنظمة الشيوعية هناك ، أتصل بي ذات مساء وفي وقت متأخر ليلاً ، أحد الأصدقاء العرب حيث يقيم في هذه العاصمة منذ عقدين من الزمن ، وصار يحمل جنسيتها ، وقال لي وقد لمست في صوته شيئاً من اللهفة : أتمنى وأرجو منك ياصديقي ان ترافقني غداً في زيارة مسائية الى منزل والد صديقنا (فلان) الذي عرفتك عليه قبلاً ، وسنتقابل مع والده ،(رئيس الوزراء السابق) …
قلت له وما علاقتي أنا بالموضوع ، فقال انت لبناني ، وصاحب شركة اجنبية في البلد ، وتتعاطى التجارة الدولية ، و وجودك معي يعطيني مصداقية كبيرة ، لأن هناك صفقة مالية يجري التحضير لها و ستكون لنا أرباح كبيرة ، قلت له لماذا لا ندعوهم إذن إلى العشاء في المطعم اللبناني ، فقال : القضية لها طابع سري ، والرئيس لايريد ان يراه أحد في مكان عام مع الأجانب كي لا يصبح مادة دسمة لحديث الصحافة الفضائحية والمستنفرة هذه الأيام .
… وهكذا وفي مساء اليوم التالي أصرَّ صديقي ان ننتقل بسيارتي ومع السائق ايضاً ، (وايضاً من أجل مصداقيته) إلى منزل دولة الرئيس السابق ، وهي فيلا متواضعة في ضواحي العاصمة ، حيث استقبلنا ولده في صالون متواضع أيضا ً ، و رحب بنا بحرارة ، و بعد دقائق قليلة حضر والده الستيني (دولة الرئيس السابق) وهو يلبس بدلة متواضعة جداً ولونها اقرب الى الكاكي وهي من صنع محلي ، وربطة عنق أكثر تواضعاً ، ورحب بنا بلغة البلد و ببضع كلمات إنكليزية يبدو انه لم يستخدمها منذ فترة ، فرحب بنا ، وسألني عن لبنان و أحواله بعد الحرب ، والمستقبل ، ثم عن مدى قبولي للأوضاع المستجدة في بلده وكم انا راض عن التغييرات وعن التجارة والإقامة فيها !
وبدأت الترجمة الى العربية من قِبَل صديقي عندما دخل في صلب الموضوع على الشكل التالي:
يود حضرته أن يعلمك ايها السيد أن الموضوع عبارة عن إستفسار عن إمكانية فتح حساب في سويسرا او أي بلد آخر فيه نظام “السرية المصرفية” ، وعن الطريق الأفضل لنقل الأموال بالنقدي (كاش) ، وعمَّا إذا كان حضوره شخصياً ضروريا او إمكانية إرسال إبنه كممثل له ، لأن حضرته يريد ان تكون الأموال بإسمه لحين وفاته !
كنت أبتسم بين الفينة والأخرى وعندما لاحظ دولته ذلك ، التفت الى صديقي وقال له :
أرجو ان لا يفهمني السيد خطأً ، رجاءً قل له أنني أعمل في السلك الوظيفي لخدمة بلدي منذ أكثر من أربعين عاماً حيث وصلت الى (وظيفة) رئيس الوزراء ، وأنني ذهبت في عشرات الوفود الى خارج الدولة ، وكنت أتقاضى في كل سفرة مبلغاً من المال بالعملة الأجنبية “كمصاريف وبدل سفر” ، وقد قمت بتجميعها خلال أكثر من أربعين سنة و أقسم لك “أنني لم أمد يدي مطلقاً الى مال الدولة”…
والتفت الى ولده و صديقنا ولي وكأنه قد إقترف ذنباً و يتوسل الصفح عنه !!!!
قلت لصديقي وتوفيرا للوقت والإحراج المبكر ، وهل يريد دولته ان يضع كامل المبلغ او جزءً منه في الحساب المحتمل ؟
فسأله ثم جاوبني صديقي وقد غصَّ ب ريقهِ وذهب بريق عينيه المتفاءلتين بربح كبير قبل الجلسة وقال : انه يريد إيداع كامل المبلغ ال (أربعين ألف دولار أمريكي!!!) -قالها له دولته بصوت خفيض- ، وأما إذا كنت ياسيد تعتبره مبلغاً كبيراً فيمكن إيداعه على دفعتين!!!
أُصبت بالدهشة وحاولت التظاهر بالجدية والرصانة إحتراماً وحفاظاً على مشاعر دولته وفي نفس الوقت شعرت بتقدير عظيم وإجلال كبير لهذا الرجل الوطني والمنضبط والمعصوم عن إرتكاب جريمة سرقة المال العام .
قلت له : كما تعلم ياحضرة الرئيس ، انت رجل نزيه ، وأنا اقدِّر واحترم تجميعك لهذا المبلغ ، الذي يبدو متواضعاً جدا في بلاد الرأسمالية المتوحشة وهذا المبلغ سيذهب عمولات لفتح الحساب والإجراءآت والتعقيدات وتكاليف الإقامة والسفر وغيرها ، وبالتالي انا لا أنصحك بوضعه في بنوك اوروبا، لأنه سيذهب تحت بند هذه المصاريف ! أما إذا أردت تحويله في نفس الوقت لأي عملة أخرى أو شراء ماتريد من الخارج بالعملة الصعبة فنحن حاضرين وسنساعدكم حتماً .
هز رأسه موافقاً وقال : لقد كان ولدي محقَّا عندما اخبرني بمثل قولك هذا ، و انا أردت التأكد ، أنا أشكر لك النصيحة ، و أعذرني على الوقت الذي -إقتطعته- منكم هذ المساء.
قالها بأدبٍ جم ، ودَّعته بحرارة بعد ان شكرته مرة ثانية على لطفه وتقته بنا ، وأثنيت على وطنيته و صدقه وتفانيه في خدمة بلده وصونه للمال العام لشعبه ودولته.
تذكرت هذه الحادثة ، وأنا أرى حيتان وتماسيح و ديناصورات المال العام التي مازات تتمادى و تستشري وتتناسل في بلدي وتتوارث المال الحرام المنهوب من الشعب المنكوب.
آسف للإطالة والله يحفظكم .

زر الذهاب إلى الأعلى