أخبار العالم العربي

كيف “نَطَق” التمثال وتحوَّل امرأَةً جميلة (1) بقلم الشاعر هنري زغيب

كثيرًا ما نهلَت الفنون (الموسيقى، المسرح، الشعر، الأُوﭘـرا، الكوريغرافيا، الرسم، النحت، السينما…) من قصص وأَساطير ميثولوجية مادةَ استيحاءٍ أَو اقتباسٍ أَعمالًا ساطعة في التاريخ قديمًا وحديثًا خَلَدَت وخلَّدَت معها الأُسطورة.

من هذه الأَخيرة: “ﭘـيغماليون وغالاتِيا”، إِحدى أَشهر الأَساطير اليونانية إِيحاءً وتأْثيرًا وانتشارًا في تاريخ الفنون. وهي عن نحاتٍ يوناني بارع في قبرص يئِسَ من أَن يجد في مدينته امرأَة صالحة يتزوَّجها، فقرَّر أَن ينحت امرأَة جميلة يعوِّض له وجودُها في محترفه عن أَيِّ زوجة تُلازمه. وبعد عمل طويل ودقيق وبارع، أَنجز تمثالَ امرأَةٍ من عاجٍ أَبيض صقيل سمَّاها غالاتِيا، جاءَت أَجملَ من جميع التماثيل التي نحتَها في الحجر، ومن جميع النساء اللواتي عرفَهُنّ في المدينة.
التمثال تعويضًا عن المرأَة

ما هي حتى بات حضور غالاتِيا في محترفه ساطعًا، فأَخذ يميل إِليها حنانًا كما إِلى امرأَة حقيقية، وبلغ به الحنان حدَّ التعلُّق فالهيام. نشأَت حالة حُب عاصف بين ﭘـيغماليون وغالاتِيا، ومن هوَسه بها أَخذ يلاطفها كلَّما دخل محترفه، يخاطبها، يحمل إِليها هدايا يَحدُسُ أَن المرأَة الحبيبة تحب أَن تتلقَّاها: زهور، أَصداف بَحرية من الجزيرة، سُبْحات خرَز، دُمى جميلة، …، ويُلبسها كلَّ يوم ثوبًا نسائيًّا جديدًا وجميلًا يوصي عليه أَشهرَ خياط في المدينة، ويَضع في أَصابعها أَزهى الخواتم، وفي أُذنيها أَقراطًا برَّاقة، وحول عنقها أَجمل العقود من باقة أَزهار عطِرة، وكل ما كان يحلم أَن يكرِّم به امرأَةً حقيقة لو أَحبَّتْهُ وأَحبَّها.

هذا الحب المجنون حتى الوله الشديد والولع الأَكيد والسكْر الوطيد، تنبَّهت له إِلهة الحب أَفروديت، فأَشفقت على النحات الشاب أَن يظل عاشقًا تمثالًا من عاج، محرومًا من عيشه حبًّا حقيقيًّا مع امرأَة حقيقية. انتظرت نهار عيدها الذي يأْتيها خلاله الناس يقدّمون لها الأَضاحي، وينذُرون أَمامها متشفعين لديها ما يتمنَّون أَن تحققه لهم. وحين وصل بيغماليون ومعه الثور أضحية، نذر الأُضحية وصلّى أَن تهبه أَفروديت امرأَةُ حقيقية يحبُّها وتحبُّه. تحركَت شفقة أَفروديت عليه، وأَضمرَت له مفاجأَةً تساوي نَذره وتضرُّعه واستشفاعه، فبثَّت له إِشارة خاصة: جعلَت النار في الهيكل تشتعل مرة وتنطفئ، ثم تشتعل ثانية وتنطفئ ثم تشتعل ثالثةً وتنطفئ.

مفاجأَة أَفروديت

عاد ﭘـيغماليون إِلى محترفه مذهولًا متسائلًا عما يمكن أَن تكونَه تلك الإِشارة غيرُ المألوفة. لم يطُل تفكيره لأَنه أَزال من باله كل تفكير آخر حين أَقبل على غالاتِيا (التمثال) يعانقها كعادته كلما خرج من المحترف وعاد إِليه.

فجأَةً… جَـمُد في مكانه مذهولًا: أَحَس حول خصرها حرارةً غير تلك التي يأْلفها فيها عادةً حين تتسلَّل إِلى محترفه أَشعةُ الشمس فتنهمل على غالاتِيا مُدفئَةً برودة العاج، وأَحَس في شفتيها، إِذ قبَّلَهما، طراوة لم يأْلفها عادةً حين يقبِّل شفتيها المنحوتَتَين.

تراجع عنها خطوتَين مترنِّحًا مصعوقًا كما في سكْرة ضبابية. تأَمَّلَها من جديد كي يرى ماذا تغيَّر. خُيِّل إِليه في لحظاتٍ أَنه يراها تتحرك.

تتحرك؟؟ كيف؟؟ وهل يتحرَّك العاج؟؟ كيف ينبض بالحياة تمثالٌ من جماد؟

أَهو في حلمٍ أَجمل من حقيقة؟ أَم انه حيال مشهد يراه في المنام؟

تحسَّس جسده، تحسَّس وجهه، تحسَّس أَدوات النحت حوله، تحسَّس ذاكرته مسترجعًا زيارته إِلى هيكل أَفروديت وما كان شاهدَ فيه. ها إِنه صاحٍ تمامًا بكامل وعيه: لا يحلم، لا يهذي، وليس سكران.

إِذًا.. ما الذي يجري معه، به، أَمامه؟
التمثال يتحوَّل امرأَة

تأَكَّد أَن ما يعاينُه واقعٌ، ليس وهمًا ولا هذيانًا. بلى: هي ذي غالاتِيا، التمثال غالاتِيا، حبيبتُه غالاتِيا، تتحرَّك أَمامه.

لحظتَئِذٍ فهِمَ ما رآه من إِشارة في النار التي انطفأَت ثلاثًا واشتعلَت ثلاثًا: إِنها أُعجوبة استجابة له من الإِلهة أَفروديت. تلقَّاها بين الشك واليقين، بين الأَمل والفرح. تقدَّم ثانيةً من غالاتِيا التمثال فتحرَّك التمثال ووُلِدت فيه الحياة، فإِذا صنيعته غالاتِيا لم تعُد من عاج، بل هي حقيقية تنبض بالحياة، امرأَة جميلة جدًّا كما كان نحتها تمثال امرأَة جميلة جدًّا.

تحسَّس وجهها، عنقها، خصرها، ثناياها، فإِذا هي حرارةُ امرأَة يَسري دم دافئٌ في جسدٍ نفض عنه برودة العاج، وإِذا غالاتِيا لم تعُد صنيعة إِزميله بل مولودة أَفروديت استجابت لصلاته ونَذره ودُعائه.

عاد ﭘـيغماليون سريعًا إِلى الهيكل كي يشكُر أَفروديت. انهار على قدَميها ممتنًّا، دامعًا من فرح، فأَرسلت له صوتها هادئًا هانئًا، داعيةً إِياه أَن يتزوَّج من غالاتِيا، ووعدتْه حتى أَن تحضر عرسه.

هكذا كان… وعرسًا ساحرًا حضرَت أَفروديت، وباركت العروسَين وتمنَّت لهما السعادة بالبنين والبنات. وحين ولَدت غالاتِيا طفلتها الأُولى، سمَّتها ﭘـافوس، على اسم المدينة التي وُلدت فيها أفروديت.

لا تزال ﭘـافوس اليوم في قبرص (50 كلم غربي ليماسول) مدينة أَثرية منذ العصر النيوليتي (12 أَلف سنة ق.م.)، وهي على لائحة اليونسكو للتراث العالمي.

ولا تزال أُسطورة ﭘـيغماليون وغالاتِيا، منذ فجر الحضارة، تتجدَّد باستمرار طالما توحي قصتُها للمبدعين ينهلون منها مواضيعَهم في الآداب والفنون.

19-01-2021 المصدر: بيروت- النهار العربي

زر الذهاب إلى الأعلى