بأقلامنا

توازن الردع والصراع في سباق نووي وتأثير الدور الأمريكي والروسي في معادلة الضربات المتبادلة بين إيران وإسرائيل \ د. شريف نورالدين

:

. بتاريخ: 28 / 10 / 2024

 

إن الصراع الاستراتيجي بين إيران وإسرائيل لم يعد يقتصر على الساحة التقليدية أو يتأثر فقط بالمواجهات المباشرة؛ بل إنه اليوم يتخذ أبعاداً أوسع تتعلق بقوة الردع النووية كعنصر حاسم في صياغة موازين القوى في الشرق الأوسط.

يُدرك كلا الطرفين، إيران وإسرائيل، أن تحقيق التفوق العسكري لا يقتصر على الأسلحة التقليدية بل يمتد إلى القدرات النووية، حيث تعزز إسرائيل قدرتها النووية بدعم تقني واستخباراتي أمريكي، بينما تسعى إيران إلى تطوير برنامجها النووي رغم العقوبات والضغوط الدولية، مستفيدةً من علاقاتها الاستراتيجية مع روسيا والصين. هذا السعي الإيراني لا يهدف فقط إلى حماية مصالحها الإقليمية، بل إلى فرض هيبة تُعزز من موقفها الردعي وتردع أي تهديد قد يُعرض أمنها القومي للخطر، لتصبح بذلك لاعباً لا يمكن تجاهله.
في ظل توازنات دولية معقدة وتطورات محلية متسارعة، يأتي الصراع النووي بين إسرائيل وإيران كنقطة تحول مفصلية تشكل تهديداً قد يقلب موازين القوى في المنطقة، معززاً حالة ردع متبادل محفوفة بتحديات غير مسبوقة.

لذا؛ تصريحات ولي الفقيه السيد علي خامنئي، يعمل على تعزيز هذه الاستراتيجية، حيث يدعو المؤسسات الإيرانية إلى تحمل مسؤولياتها بجدية لتأمين البلاد وحماية حلفائها ومصالحها في المنطقة.
ومع تأكيده على ضرورة الردع كعنصر محوري، تأتي التوجيهات الإيرانية متكاملة لتعزيز القدرات الدفاعية، وتحقيق توازن استراتيجي رادع دون الانزلاق نحو مواجهة مفتوحة قد تكون نتائجها مكلفة لكافة الأطراف.

وفي ظلِّ التوترات الإقليمية المتفاقمة، يبدو أن رئيس الوزراء الإسرائيلي (اكزينو بنيامين نتنياهو) يتبنى سياسة تصعيدية مدروسة تهدف إلى تمديد دائرة النزاع وتحويله إلى حرب مفتوحة طويلة الأمد، محاولًا جرَّ الولايات المتحدة إلى مواجهة مباشرة مع إيران.
بفضل الدعم الأمريكي المطلق، الذي يشمل السلاح والغطاء السياسي والتمويل، استطاع نتنياهو توظيف العلاقة مع إدارة الرئيس بايدن واستغلال حساسيات الانتخابات الأمريكية لتحقيق أجندته الخاصة، متجاوزًا الاعتبارات الإقليمية والدولية كافة.
في هذا السياق، تبرز الاستراتيجية المتطرفة لحكومته التي ترى في توسيع رقعة الحرب مكسبًا، حتى لو أدى ذلك إلى اشتعال المنطقة بشكل كامل، وتحميل أمريكا كلفة مواجهة قد تتجاوز قدرات كافة الأطراف.

أما توازن القوى بين إسرائيل وإيران بهذا الصراع وتداعيات الضربة الإسرائيلية الأخيرة، لا بد من تناول ديناميكيات القوة البرية والبحرية والجوية، وأبعاد الحرب السيبرانية، وتأثير شبكات الحلفاء، وعلاقة اميركا وروسيا والصين وتأثيرهم على النزاع بين إيران وإسرائيل.

– أولاً: ديناميكيات الضربة الإسرائيلية الأخيرة وتأثيرها على توازن الردع في عمق ايران: ان استهداف منشآت الدفاع الجوي ومرافق تصنيع الصواريخ الباليستية يحمل أبعادًا استراتيجية تهدف لتحقيق عدة أهداف منها:
– إضعاف الدفاعات الجوية الإيرانية: هذه الضربة توجه رسالة واضحة إلى إيران، توضح القدرة الإسرائيلية على تجاوز الدفاعات الجوية الإيرانية الى العمق الايراني واستهداف مواقع حساسة.
يمثل هذا رسالة ردع ويضع إيران أمام تحدٍ لتعزيز أنظمتها الدفاعية، خاصةً وأن روسيا مترددة في تزويدها بمنظومات “إس-400” المتطورة وطائرات ميغ35، رغم الدعم الإيراني لروسيا في ملف أوكرانيا.

– تقليص القدرات الباليستية: باستهداف المنشآت الحيوية لمرافق تصنيع الصواريخ، تعزز إسرائيل مخاوف إيران المتعلقة بتقويض القدرات الهجومية بعيدة المدى لإيران، مما يساهم في إبقاء الضغط على إيران وزيادة حوافزها لتعزيز قدراتها الردعية في مجالات أخرى كالمجال النووي.

– الضغط النفسي والردع المتبادل: الضربة تحمل رسالة نفسية للقيادة الإيرانية مفادها أن إسرائيل لن تتردد في استهداف العمق الإيراني، مما يعزز من فكرة “التوازن المرعب”، ويدفع إيران للتفكير في أدوات ردع متعددة، بما فيها احتمالية تعزيز قدراتها النووية.

– التصعيد الإقليمي واحتمالات الرد الإيراني والتوقعات الإسرائيلية: مع توقع رد فعل إيراني محتمل، تتخوف إسرائيل والولايات المتحدة من أن يؤدي أي تصعيد في الردود إلى تعميق الأزمة في المنطقة، وخاصة في ظل تصاعد حدة المواجهات في لبنان وغزة، ووجود أطراف مسلحة تدعمها إيران قد تلعب دورًا في نقل الصراع إلى مناطق أخرى.

– مخاطر التصعيد النووي: الضغوط المتزايدة قد تدفع إيران لإعادة التفكير في استراتيجيتها النووية، خاصة إذا استمرت إسرائيل في تنفيذ ضربات مشابهة.
ويُرجّح أن يكون هذا دافعًا إضافيًا لتعزيز التعاون الإيراني مع الصين وروسيا لرفع مستوى دعمهم، أو على الأقل لتوفير دعم غير مباشر يسهم في تحقيق الردع الإيراني.

– ثانيًا: توازن القوى في المجالات العسكرية الرئيسية
– القوة البرية: إسرائيل تمتلك جيشًا تقنيًا مجهزًا بأنظمة متقدمة، بينما إيران تركز على قوات الحرس الثوري وفرقها المتنقلة وتكتيكات الحرب غير التقليدية، مما يمنحها ميزة في الحرب غير النظامية.
ورغم الدعم الروسي غير المباشر في تطوير بعض الأنظمة الإيرانية، إلا أن المساعدات الكبيرة لإسرائيل من الولايات المتحدة تشكل فارقًا تكنولوجيًا هائلًا.

– القوة البحرية: إسرائيل تسيطر في البحر المتوسط وتستفيد من غواصات الدولفين المزودة بصواريخ بعيدة المدى، بينما تعتمد إيران في الخليج على تكتيكات حرب المجموعات والزوارق السريعة في مضيق هرمز مع امكانية سيطرتها على كافة مجالها الحيوي البحري وهذا ما اكده الحوثي وسيطرته المحكمة في اغلاق باب المندب والبحر الاحمر في ظل وجود التحالف الدولي البحري وفشله في مواجهات تكتيكات اليمني في تعطيل الملاحة البحرية.
مع دعم صيني وتعاون بحري مع إيران، خصوصًا في جوانب الأمن البحري، بينما تحافظ روسيا على مسافة لتحافظ على علاقاتها المتوازنة في المنطقة.

– القوة الجوية: إسرائيل متفوقة بفضل مقاتلات F-35 الأمريكية، والتي تقابلها مقاتلات ميغ-29 وقديمة لدى إيران.
رغم الدعم الروسي المحدود والتعاون الصيني في مجالات الطائرات المسيرة، إلا أن ذلك لم يصل بعد إلى مستوى يغير ميزان القوى، خاصة أن روسيا والصين غير مستعدتين لتقديم تقنيات متطورة مثل MiG-35 أو منظومة “إس-400″، نظرًا لحساسية توازن القوى في المنطقة.

– الفضاء والحرب السيبرانية: إسرائيل تمتلك بنية فضائية متقدمة وأقمار صناعية لاستخبارات دقيقة، إلى جانب قدرات سيبرانية قوية كما ظهر في عمليات مثل ستاكسنت.
إيران تسعى لتعزيز قدراتها الفضائية، بدعم نسبي من الصين وتعاون سيبراني مع روسيا، لكنها لا تزال متأخرة مقارنة بإسرائيل.

– القدرات الاستخباراتية: الموساد الإسرائيلي يعتمد على جمع المعلومات وتنفيذ عمليات دقيقة، وقد استهدف شخصيات إيرانية ومنشآت نووية بشكل مباشر.
بالمقابل، تعتمد إيران على شبكة الحلفاء الإقليميين مثل حزب الله وحماس والجهاد الإسلامي، مما يوفر لها وسيلة للرد غير المباشر ضد إسرائيل.

– ثالثًا: دور الصين وروسيا وتأثيرهما على التوازن الإقليمي
روسيا تحافظ على علاقة متوازنة بين الطرفين، إذ لا ترغب في تمكين إيران بما يهدد مصالحها أو يؤدي إلى سباق تسلح يضر بتوازن القوى الإقليمي.
يفسر هذا السبب وراء تردد روسيا في تسليم أنظمة دفاعية متقدمة لإيران، رغم التعاون الوثيق في سوريا والملفات الدولية الأخرى.

الصين، بدورها، تنظر إلى إيران كشريك استراتيجي في مشروع “الحزام والطريق”، وتدعمها اقتصاديًا وتكنولوجيًا، لكن بحذر، لتجنب عقوبات والتدخل المباشر في الصراعات الإقليمية مع إسرائيل أو الولايات المتحدة. الصين تدعم إيران تكنولوجيًا عبر برامج تطويرية، لكنها لم تقدم لها قدرات عسكرية متقدمة قد تؤدي إلى تصعيد غير محسوب.

– رابعًا: الخيارات المتاحة لإيران في الرد على الضربة الأخيرة وتداعياتها
– الردع غير المباشر: من المتوقع أن ترد إيران من خلال محورها الإقليمي، كحزب الله والفصائل الفلسطينية في غزة، لتنفيذ ضربات تكتيكية تتجنب الرد المباشر، مما قد يحافظ على الردع دون انزلاق إلى مواجهة شاملة.

– تعزيز القدرات الدفاعية والسيبرانية: قد تزيد إيران من استثماراتها في المجال السيبراني وأنظمة الدفاع الجوي المحلية، من خلال دعم جزئي من الصين وروسيا، كخيار أقل خطورة وأقل عرضة لاستفزاز إسرائيل.

– التوجه نحو القدرات النووية: على ضوء الضغوط المتزايدة، قد تندفع إيران لتسريع تطوير برنامجها النووي بهدف الحصول على ورقة ردع حقيقية. سيسهم التعاون مع الصين في تسهيل التقدم ببطء في هذا المجال، بينما ستستفيد إيران من دعم غير مباشر من روسيا، ولو بشكل غير علني.

– خامسًا: احتمالات التصعيد والتوازن الاستراتيجي في المنطقة
– حرب باردة جديدة: يُرجح أن تظل المنطقة في حالة “حرب باردة”، إذ يسعى كل طرف إلى تجنب المواجهة المباشرة من خلال الردع المتبادل عبر الحلفاء الإقليميين كأدوات ضغط غير مباشرة.

– تعقيد التوازنات الإقليمية: في حال تصاعدت الهجمات المتبادلة، قد تجد روسيا والصين نفسيهما مضطرتين للتدخل بوسائل غير مباشرة لضمان استقرار المنطقة، فيما قد تتدخل الولايات المتحدة لدعم إسرائيل في حال تزايدت التهديدات.

– المواجهة البحرية: تظل مياه الخليج ومضيق هرمز مناطق توتر قابل للتصعيد، وفي حال انخرطت إيران في مواجهة هناك، قد يؤدي ذلك إلى تدخل دولي ويضع مصالح الصين وروسيا أمام خطر غير مرغوب.

الخاتمة
إن تحقيق توازن الردع ليس فقط ضرورة لحماية إيران بل هو عامل أساسي لحفظ الاستقرار الإقليمي أمام تهديدات متزايدة، خاصة مع التحديات التي تواجهها إيران على عدة أصعدة.
إدراكًا لأهمية القوة والقدرة على الردع، تظل توجيهات المرشد الأعلى السيد الخامنئي دافعًا رئيسيًا لتحقيق هذا الهدف ضمن إطار واضح يحمي البلاد دون تجاوز للخطوط الحمراء، في ظل سياسة حذرة تهدف لتجنب مواجهة شاملة، مع الحفاظ على مصالح إيران وحلفائها.

هذا التوازن غير المتكافئ يؤكد أن الصراع سيبقى خاضعًا للردع المتبادل، وإن كانت كل من روسيا والصين تواصلان تقديم الدعم بحذر، مع الحفاظ على استقرار المنطقة ومنع انهيار التوازنات القائمة.

وفي ظل هذا الواقع المتشابك، فإن امتلاك القدرة النووية أو السعي نحوها لا يُعد فقط أداة لردع الخصوم، بل يشكل بوابة نحو فرض قوة إقليمية وسيادة متزايدة.

إسرائيل، بترسانتها النووية غير المعلنة، تعمل على ضمان تفوقها العسكري بالاعتماد على تقنيات متقدمة ودعم أمريكي لا محدود، بينما تستمر إيران، رغم التحديات والضغوط، في التطلع لتعزيز قدراتها النووية كوسيلة استراتيجية تُمكنها من تحقيق توازن قوى حقيقي مع إسرائيل وتهديد حلفائها.
وإن أية ضربة متبادلة، كتلك التي شهدناها مؤخراً، لا تعني فقط تهديدات متبادلة، بل تؤكد أن الطرفين وصلا إلى نقطة اللاعودة، حيث يمثل الردع النووي خياراً مشتركاً يفرض عليهما، وعلى حلفائهما.
في نهاية المطاف، قد تؤدي هذه الديناميكية إلى إجبار إسرائيل على إعادة حساباتها، وتبني استراتيجيات أكثر حذراً لتحقيق الردع المستدام مع تقليل احتمالات التصعيد النووي المفتوح.

ومع استمرار سياسة التصعيد التي ينتهجها نتنياهو، في ظل تواطؤ وتورط أمريكي متزايد، لا يضع الشرق الأوسط على مسارٍ متفجر فقط، بل يهدد أيضًا بمضاعفة كلفة النزاع وتوسيع نطاقه إلى أبعاد يصعب احتواؤها.

أمام هذا السيناريو، تجد الولايات المتحدة نفسها في موضع أكثر حرجًا، إذ إن استغلال نتنياهو للأوضاع السياسية في واشنطن قد يقودها إلى قرارات استراتيجية مكلفة، قد تُعرض مصالحها واستقرار المنطقة لخطر أكبر.

وختامًا، قد يكون لزامًا على واشنطن إعادة تقييم شراكتها مع نتنياهو وخكومته المتطرفة، التي ترى في حرب طويلة الخيار الوحيد لتعزيز نفوذها، حتى وإن كان الثمن استنزاف حلفائها وتوريطهم في مواجهات تتعارض مع أولوياتهم الاستراتيجية.

زر الذهاب إلى الأعلى