بأقلامنا

معاندةُ الموت ومعانقةُ الحياة بقلم الشاعر هنري زغيب

“أَزرار” رقم 1320
النهار”
الجمعة 28 حزيران 2024

… وبين “دال” معاندة و”قاف” معانقة، تتجلَّى قوَّة لبنان..
قوَّة؟ أَتحدَّثُ عن “قوَّة لبنان”، على ما فيه اليوم من اعتلال وهُزال وانعزال؟
طبعًا.. أَتحدَّثُ عن القوة التي في لبنان الوطن.. الاعتلال هو في سُلْطة لبنان، والهُزال هو في دولةٍ جعلَتْها سُلْطتُهُ هزيلة، والانعزال في نظرة الدول إِليه بـما أَورَثَنَاهُ حُكْمُهُ فجعَلَ لبنان شحَّادًا على أَرصفة الدوَل، قاصرًا عن انتخاب رئيسه، فاتحًا أَبوابه لأَيِّ مُوفَدٍ يَدخل مُنقذًا أَو مُساعدًا أَو مُبادرًا، بعدما ثَبُتَ لدُوَل الآخرين عجْزُه عن أَيِّ إِنقاذ سياسي ومساعدة شخصية ومبادرة ذاتية..
نعم: هذا اللبنانُ الشحَّاد ضعيف.. صحيح.. لكنَّ لبنان الوطن، قويٌ: كان، ولا يزال، وسيبقى..
شعبُ لبنان اعتاد النُهُوض الأُعجوبيّ من أَتون الأَزمات والحروب والمصاعب والمصائب.. صَهَرَها ولَم تَصهَرْهُ.. بادَرَها ولم تبادرْهُ.. فاجأَها ولم تفاجئْهُ.. عاجَلَها ولم تُعجِّلْهُ.. وخَرجَ منها جميعها شعبًا جديرًا بالحياة في وطنٍ بناه أَجدادُه الأُلى قويًّا، وقويًّا يحافظ عليه الأَبناء..
لستُ طوباويًّا في ما أَقول، ولا رومنطيقيًّا في ما أَدّعي، ولا مُشيحًا عن واقع مرير نَعيشه.. لكنَّ هذا الواقع يُصيب الضعفاء الذين إِمَّا استسْلَمُوا فسَلَّموا جوازاتهم للطائرات نَقَلَتْهُم إِلى كل هناك مُتاح، أَو انهم استزلموا زبائنيًّا أَغناميًّا قُطعانيًّا فأَعادوا انتخاب طبَقة نتنة مهترئة عفنة كانت ولا تزال السبَب في ما وصل إِليه اليومَ لبنانُ السلطة والدولة من واقع حارق فاجر.
أَعرف كلَّ هذا وأُعايشُهُ وأُعاينُهُ وأُعاني كسوايَ منه بوجَع وإِرهاق وإِزهاق.. على أَنه لا يُلْهيني عن وجه آخَرَ تُغذِّيه مقاومة عنيدة ثقافيًّا وسياحيًّا وأَهليًّا تعاندُ الموت وتعانقُ الحياة: الجامعات تُخَرِّج آلاف المتفوِّقين، المسارح تستقبل مئات المشاهدين، الأُمسيات الثقافية والموسيقية متواصلة، الواحات السياحية موعودة بوفود آلاف المغتربين الذين – ولو صيفًا، وعلى الرَغْم من القلق والارتياب والحذر – قرَّروا المجيْءَ إِلى قُراهم ومُدُنهم وجبالهم يُمْضون أُوَيقات هانئةً في مطاعمها ومسابحها ومجمَّعاتها ومهرجاناتها، مُنعشين ولو جُزئيًّا حركةً اقتصادية ودورةً اجتماعية وحالةً نفسية هي في ذاتها إِشارة إِلى أَنَّ في لبنان شعبًا لا يلوي أَمام العاصفة، ولو انَّ فيه قسْمًا متشائمًا نقَّاقًا نعَّابًا بَشعًا يبثُّ في محيطه الخوف والريبة والشُؤْم والنعي والحديث عن خطر آتٍ وأَوضاع كارثية مقْبلة والتخويف مما سيجري في مصير لبنان، نقْلًا عمَّا يتداولُه مندوبون خارجيُّون يجيئُوننا، ومسؤُولون أَجانب يزُوروننا، ثم يقْلبُون شفاههم ويغادرون..
كلُّ هذا نَعرفه.. ونُوجع لِما يحدُث في جنوبنا من تهجير وتدمير وتفقير وتعتير.. لكنَّ الجنوب اعتاد منذ عقود أَن يعيش في الخطَر وما زال يحيا في القلق ويحتمل موتًا يوميًا لا ينسحب على سائر أَرجاء الوطن التي تَشعر بوجع الجنوب لكنها تُقاوم من أَجل الحياة..
هل المطاعم والمسارح والحفلات والمهرجانات والجامعات دليلٌ وحدها على عافية الوطن؟ طبعًا لا.. لكنها إِشارةٌ إِلى اللبناني العنيد الذي (مثالًا لا حصرًا) انفجَرَ جُزءٌ من عاصمته فتخلَّى عن سؤَال سُلطته العقيمة لا يرجو منها تحقيقًا ولا جوابًا، وراح يُبَلْسِمُ حياته من جديد، مُعيدًا إِلى عاصمته رمقًا يريد أَعداؤُها أَن يخنقوه فيها..
يقينًا أَنَّ ما يجري في لبنان من أَهوال وأَخطار وهواجس لو انها في بلدٍ آخر لكان شعبُه انهار وهاجر تاركًا مفاتيح بيوته في عهدة “زاد الخير”، ولكانت هي أَيضًا غادرَت تاركة لنَيرونيَّة “غَيْبُون” أَن يبقى وحدَه ملِكًا على البيوت الفارغة وخيالات الشجر.. لكنَّ شعب لبنان (القسم الأَكبر منه: المؤْمن بديمومة لبنان اللبناني كما بناه آباؤُه المبارَكُون منيعًا ضدَّ الموت) سيبقى يقاوم مهما جرى ويجري.. وهو هذا ما يَجعل عدُوَّه الصهيوني، منذ عقود، يَحسُده ويعمل على إِضعافه ويرى إِليه شعبًا عنيدًا لا يَسقُط في الريح..
بلى: نحن شعب يُعاندُ الموت ويُعانقُ الحياة.. وبين “دال” يعاند، و”قاف” يعانق، تَكْمُن فيه قوَّةٌ أُعجوبيةٌ تستمدُّ من جوهره التاريخيّ فجْرًا جديدًا لا يُعيقه ليلٌ مهما استطال.
هـنـري زغـيـب

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى